على أعتاب كل عام جديد تعيد البشرية نشر أشرعتها في رحلة جديدة نحو الأمل والسعادة، تتخفف من أحمال العام الماضي الثقيلة وتتماهى -مؤقتاً- مع النسيان في انتظار حال جديد يحمل معه الأزهار والهدايا وأشياء من مفاجآت مثيرة تشبه الأحلام الجميلة، وفي أعماقها الدفينة حملت البشرية عبر التاريخ تراثاً من المعتقدات التي جذّرتها فيناً وأورثتنا إياها لنلهو بها في لعبة الأمل التي تخفف عنا مرارة الواقع؛ علّ قبساً من غيب ما يحقق أمنياتنا ويمنحنا السكينة والإنسانية التي نخسر بعضاً منها في كل يوم من أيام السنة. ليلة رأس السنة هي ليلة الأمنيات الطيبة وهي ليلة الإنسانية النقية.
شخصية بابا نويل، أو سانتا كلوز، ذلك الشيخ طيب الوجه كريم القلب، إنها شخصية من التراث الشعبي المسيحي، وليست شخصية من العقيدة نفسها، وظيفة بابا نويل أن يدخل السعادة، في ليلة رأس السنة، على الأطفال والأيتام والأسر الفقيرة بالأموال والهدايا التي تحقق أمنياتهم في العام الجديد، إنها لعبة الأمل التي تشعرك أن ثمة شخصاً ما لا يعرفك خطرت بباله واهتم بأمرك وفك ضيقك، إنها قصة تحقق الأمنيات عبر قادم من المجهول في ساعة يشتد فيها برد الحياة ويغطي الصقيع أفق توقعاتنا ويمتلئ قلبنا بالحزن واليأس، ثم تفاجأنا الحياة أن ثمة أملاً وسعادة وعطاء تقرع أبواباً على غير موعد مغلفة بالهدايا، فقط لتكون الحياة أجمل وليبقى الأمل على قيد الانتظار.
في ليلة رأس السنة تضيء الأفلاك أبراجها، ويرتقب كثير من الناس طالعهم بقراءة النجوم والكواكب، وعلم التنجيم من أقدم العلوم التي ابتدعتها البشرية لتخرج «التنبؤ» من شك الخرافة إلى يقين العلم. والغيب ليس علماً لكن البشرية سعت لصنع مستقبلها عبر كشف ملامحه فتتبع الخير لتسعد وتجتنب الشر طرداً للشؤم وسوء العواقب، لقد ربطت البشرية لفترة طويلة، ومازالت تفعل، مصيرها بالأجرام السماوية، تلك التي تراها تجول وتعود تأفل وتبزغ لكنها لا تخلف موعدها. ولكل امرئ نجم، يدور معه ويتحول معه ثم يعود إلى مركزه، إنها قراءة البشرية للشخصية الإنسانية ومصائرها، حركة بين التغير والثبات، بين الغياب والعودة، لكن الاستقرار هو السمة العامة، والانقلاب طفرة لكنه غير مستبعد أبداً، عندما يعلق المرء بصره عالياً نحو الأفلاك فإن ضميره يرتد نحو الأرض.. نحو نفسه، إن الإنسان مخلوق سماوي هبط إلى الأرض بسبب معصيته وظل قلبه معلقاً بالسماء حيث غيب قدره، ورزقه خيره وشره، ومستقر جنته أو جحيمه، ومهما أيقن الإنسان بخرافة التنبؤ واستحالة كشف الغيب يظل في قرارة نفسه الضعيفة حلم يراوده بأن يعرف شيئاً ما حول مصير ما يؤرقه!!
ورحلة البشرية نحو الأمل والحلم والسعادة والتنبؤ سارت في ركائبها الخرافة سيراً حميماً، حبات الفيروز الزرقاء والعين الفرعونية والكف ذو الأصابع الخمسة وقراءة الفناجين وخطوط اليدين والتمائم والقرابين والأذكار المقدسة.. كلها اعتراف من الإنسان بضعفه وإقرار بعجزه واستدعاء لقوى الغيب أن تقف في صفه.. معه لا ضده، فقد خبر الإنسان الشرور والآثام وعرف ما تخلفه من الآلام والأسقام، وهو في كل أمر يطلب الحياة بسلام وسكينة في عالم يعرف أنه وُجد فيه ليشقى. والبحث عن السعادة هو مضمون الكثير من القصص الشعبية والمعتقدات الخرافية، والصراع مع قوى الحياة وسطوة الطبيعة هو مغزى معظم الأساطير التي أبدعتها الحضارات القديمة، وجلب السعد وكشف الضر هو غاية النفس البشرية وأقصى ما تطمح إليه. هذا نبض الإنسانية عبر العالم ليلة رأس السنة، فيه ينسى الإنسان أنه في الوقت الذي سعى للتطور والتقدم والنماء والخير والسعادة قد زرع الخصام والحروب وسبب الأمراض والأحزان، ليلة الأمنيات هي ليلة التناقضات يترجل فيها الإنسان سيد الكون عن سلطته وسطوته ويقف على أعتاب المستقبل المجهول مؤخراً قوته وقدرته، ومقدماً عجزه وجهله في انتظار غد أجمل ومستقبل أفضل.
• أمنية:
عسى فرجا يكون عسى نعلل نفسنا بعسا
فلا تجزع إذا قابلـت هماً يقطع النفسا
فأقرب ما يكون المرء من فرج إذا يئسا
وكل عام وأنتم بخير وإلى السعادة والأمان والسلام أقرب.