أما نص الرسالة فقد جاء على النحو التالي: «لقد تشرفت، ووافقت على عضوية مجلس الشورى بالتعيين، في إطار صيغة توافقية أكدت على أن الثلث المعين سيكون من القوى المدنية بالكامل، الأمر الذي يحقق التوازن المطلوب في عضوية المجلس، وبما أن هذا لم يتحقق، لذا أرجو تقبل اعتذاري عن عدم قبول التعيين في مجلسكم الموقر».
وأما صاحبة هذه الرسالة، فهي السيدة نادية هنري، التي أرسلت سطور رسالتها إلى الدكتور أحمد فهمي، رئيس مجلس الشورى المصري، لتكون بذلك أول الأعضاء التسعين المعينين بقرار من الرئيس محمد مرسي رفضاً لقبول التعيين في المجلس.
الرسالة نشرتها «الشرق الأوسط» السبت قبل الماضي، وقالت صاحبتها تعليقًا على الاستقالة، إنها لما تفحصت الأعضاء التسعين، بهدوء، اسماً اسماً، تبين لها أن 88 منهم ينتمون إلى تيار الإسلام السياسي، وبالتالي، فإن مبرر وجودها في المجلس قد انتفى، فكانت استقالتها المعلنة!
والقصة من بدايتها أن مجلس الشورى كان قد نشأ على يد الرئيس أنور السادات عام 1980، وكان الهدف منه أن يضم في عضويته عدداً من أصحاب العقول والأفكار المعينين بقرار من رئيس الدولة، الذين يمكن أن يضيفوا نوعاً من الثراء على مناقشات القضايا المختلفة في داخله، ولم يكن للمجلس، منذ نشأته، أي دور تشريعي حقيقي، ولذلك انطلقت دعوات قوية، طوال السنوات الأخيرة، تطالب بإلغائه، توفيراً للمال العام الذي يجري إنفاقه فيه، دون فائدة. والشيء المدهش حقاً أن «الإخوان المسلمين» كانوا أول المطالبين بإلغائه قبل الثورة، وأكثر الرافضين لوجوده، وأشد المهاجمين لفكرته، فلما دار الزمان دورته، وصاروا في الحكم، كانوا أول المتمسكين به، كمجلس، والمدافعين عنه، والمبررين لوجوده طول الوقت.. ليس هذا فقط، وإنما قرر الرئيس مرسي تحصين المجلس ضد أي قرار بالحل يمكن أن يأتيه من جانب المحكمة الدستورية العليا، وكان التحصين عن طريق الإعلان الدستوري الذي كان قد صدر في 22 نوفمبر الماضي، وأقام الدنيا ولم يقعدها حتى ألغاه مرسي بيديه، ففي إحدى مواده، كان محظوراً على «الدستورية» إبطال المجلس تحت أي ظرف!
وكانت العادة قد جرت، طوال أيام الرئيس السابق حسني مبارك، على أن يأتي الأعضاء التسعون المعينون، مع بدء كل دورة جديدة للمجلس، بقرار من الرئيس، ليعوضوا ما تعجز الانتخابات في كل مرة، عن إسعافنا به في أعضائه المنتخبين، وخصوصاً فيما يخص تمثيل الأقباط، والمرأة، وأصحاب الفكر والرأي.. وكان الأعضاء التسعون، في كل قرار سابق، على مدى أكثر من 30 سنة، يضمون في داخلهم، ثلاثة أو أربعة من الأقباط، لتعويض عدم قدرة القبطي على دخول المجلس، منتخباً.
وعندما أصدر الدكتور مرسي قرار تعيين الأعضاء التسعين في أعقاب الاستفتاء على الدستور قبل أسبوعين، فإنه حرص على أن يرفع نصيب الأقباط في إجمالي العدد، فجاؤوا 12 نائباً قبطياً معيناً، من بين التسعين!
ولم يكن ارتفاع العدد، إلى هذا الرقم، صدفة، ولكنه كان مقصوداً، وكان الهدف من ورائه واضحاً، وهو محاولة استرضاء الأقباط، بعد أن كانت الدولة قد عجزت عن إرضائهم في مشروع الدستور الذي جرى عليه الاستفتاء في منتصف ديسمبر 2012، ذلك أن ممثلي الكنائس المصرية الثلاث، الأرثوذكسية والبروتستانتية والكاثوليكية، كانوا قد انسحبوا مع ممثلي القوى المدنية، والفنانين، والمحامين، والفلاحين، عند بدء مناقشة المسودة النهائية لمشروع الدستور، اعتراضاً على هيمنة التيار الإسلامي بفكره، على المشروع. وكان الأمل، وقتها، أن يكون انسحاب ممثلي الأقباط بالذات، خطاً أحمر، يستوقف النظام الحاكم على الفور، ويجعله يعيد النظر سريعاً في المسودة، ولا يمررها أبداً، إلا إذا كان ممثلو الأقباط، بوصفهم شركاء وطن، حاضرين، وراضين، ومقرين بما في المشروع، عن قناعة تامة غير منقوصة.. لولا أن هذا الأمل قد تبدد تماماً، عندما لم يعبأ الذين أقروا المسودة في صورتها النهائية بغياب ممثلي الأقباط، رغم أن غيابهم في حد ذاته سوف يظل يلقي بظلال من عدم الشرعية، على هذا الدستور، مهما كانت نسبة الذين قالوا له «نعم» في الاستفتاء إياه! إنني قد أقبل إقرار مشروع الدستور، في غياب ممثلي القوى المدنية، أو الفنانين، أو المحامين أو حتى الفلاحين، أو.. أو.. أقول قد، ولكني أبدا لا أقبل إقرار المشروع في غياب ممثلي الأقباط، الذين يمثل غيابهم، والحال هكذا، نقصاً مؤكداً في شرعية الدستور، مهما قيل عن أن مواده قد حرصت على أن تحقق مبادئ الدولة المدنية الحديثة، على أرض الوطن، وأنها تمنح المصريين ما لم يمنحهم دستور من قبل، وأنها لا تؤسس لدولة دينية كما يقال، وأنها.. وأنها.. إلى آخره.. إذ يبدو هذا كله، في النهاية، بلا قيمة حقيقية، أمام حقيقة تقول بأن ممثلي الكنيسة المصرية لم يكونوا حاضرين، عند إقرار مشروع الدستور في صيغته الأخيرة، وإن عدم حضورهم لم يكن تعسفاً في الغياب، ولا كان تحميلاً للأمور بأكثر مما تحتمل، ولا كان نوعاً من المبالغة في المطالب، وإنما كان في الأصل تعبيراً عن حالة من عدم الرضا، عن مشروع دستور المفترض فيه أن يأتي نابعا من ضمائر المصريين جميعا، ومعبراً عنهم في إجمالهم، دون استثناء، وهو ما لم يكن قائماً، فلم يجد ممثلو الكنيسة مفراً من الانسحاب.
ولو أنصف الرئيس مرسي لكان قد أعاد مشروع الدستور إلى جمعيته التأسيسية، المنوط بها صياغته، بمجرد أن علم بانسحاب ممثلي الكنيسة، ولو أنصف أيضاً لكان قد بذل كل ما في وسعه لإعادة المنسحبين بوجه عام، والأقباط منهم بشكل خاص، إلى الجمعية التأسيسية.. وإلا.. ما قيمة الدستور، وما وزنه، وما أهميته، إذا كان قد صدر، في صيغته الأخيرة، في غياب هؤلاء كلهم؟!
لم يشأ الدكتور مرسي، إذن، أن ينصف نفسه، قبل أن ينصف الذين انسحبوا، فمضى بمشروع الدستور إلى محطته الأخيرة، حتى جرى الاستفتاء عليه، وكأن الدستور غاية في حد ذاته، وليس وسيلة لتجسيد آمال الذين يعيشون على أرض واحدة، ويضمهم وطن واحد، وتجمعهم أحلام مشتركة!
ولم يكن أمام الرئيس من سبيل إلا أن يعوض في مجلس الشورى ما فاته أن يحققه في مشروع الدستور، ولذلك، فإنه أغرى 12 قبطياً من رموز العمل العام، بقبول مبدأ التعيين في المجلس، وكانت السيدة هنري من بينهم، بعد أن كانت قد افترضت حسن النية، في الفكرة، وصدقت الذين قالوا بأن التسعين عضواً سوف يكونون كلهم من المدنيين، في مواجهة أغلبية إسلامية، تسيطر على ثلثي أعضاء المجلس المنتخبين! في النهاية، استقالت السيدة هنري لأنها رفضت أن يجري استخدام اسمها، للزعم أمام المجتمع وأمام العالم، بأن الأقباط ممثلون بما يكفي في مجلس الشورى، وأن وجود 12 نائباً قبطياً معيناً، من بين النواب التسعين، خير دليل على ذلك، وهي مسألة خادعة بالطبع، إلى حد بعيد، لأن الدولة الحريصة حقاً على إشراك الأقباط في دستور يخصهم، كما يخص غيرهم من المصريين، كان عليها أن تبدي هذا الحرص ابتداء، في مشروع الدستور، بأي وسيلة، وأي طريقة، وليس في مجلس شورى لم يشارك في انتخاب ثلثي أعضائه سوى 7 % من الناخبين، وإلا كانت الدولة في تعاملها مع الأقباط، في هذه الحالة، أشبه بمن يخاصم إنساناً في ميدان، ثم يصالحه في حارة!
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية