ضج الخطاب الأخير لبشار الأسد بالعجرفة والإنكار، فاضحاً بنفسه أن «الإصلاحات» السابقة لم تكن جدية، بدلالة تكرار الوعد بها. غير أنه، إلى ذلك، وأهم من ذلك، حمل معنيين: الأول، إيذان بتصعيد عسكري وأمني مؤكد يرافقه قطع الطريق تماماً على أية مبادرة سياسية، حتى لو كانت مجرد كلام بكلام. والثاني، تركيز على التكفيريين والسلفيين أريد منه مخاطبة الغرب والولايات المتّحدة، وذاك لمعرفة الأسد أن التدخل الخارجي هو وحده ما يحسم الصراع الذي مضى عليه عامان في سوريا.
وإذا صحت المعلومات القائلة إن التقدم الجزئي الذي أحرزته القوات النظامية في الأسابيع القليلة الماضية ناجم عن تناقص الذخيرة والإمدادات لدى المعارضين، مقابل أسلحة وإمدادات روسية وإيرانية جديدة حصل عليها النظام، جاز للأسد أن يستنتج ما استنتجه وأن يبني عليه ما بناه.
فهو، كتلميذ نجيب لمدرسة «الأوراق» التي تحتقر الشعوب ومبادراتها، يذهب إلى النبع وينظر إلى الغابة بدل الشجرة. صحيح أن التعليقات التي صدرت عن الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية تقطع بأن الرئيس السوري لم ينجح في مخاطبة الذين أراد أن يخاطبهم. بيد أن هذا لا يكفي بتاتاً ما لم يقترن بسلوك أكثر مبادرة وإقداماً تسلكه تلك الدول القادرة وحدها على حسم الصراع المعلق والمكلف.
وهنا، وأمام المنعطف الكبير والخطير الذي يؤشر إليه الخطاب التصعيدي، ولتقصير طريق العنف والموت، يستحسن بالمعارضة أن تنظر، هي أيضاً، إلى الغابة بدل الشجرة. وأول النظر إلى الغابة طمأنة العالم الديمقراطي إلى أن سوريا الجديدة ستكون جزءاً منه. وسوريا، أقله منذ أواسط الخمسينات، لم تكن كذلك. فهي أول من انعطف، في العالم العربي، نحو التسلح السوفيتي والشرقي، وذلك قبل أن يقدم جمال عبدالناصر على «كسر احتكار السلاح». وهي تحدت كل منظومة الدولة – الأمة في المنطقة بوحدتها، عام 1958، مع مصر. أما مع البعث، ومع حافظ الأسد تحديداً، فتحولت تلك السياسات الضدية من هواية إلى احتراف، ومن مواقف مبعثرة إلى نهج متماسك.
ذاك أن سياسة الأسد في اللاحرب واللاسلم منعت عن منطقة المشرق، لسنوات ترقى إلى 1974، كل استقرار سياسي على قاعدة السلام الأهلي ومنظومة الدولة – الأمة. وكانت لذلك مضاعفات كبرى لم تقتصر، فضلاً عن قمع المجتمع السوري وكبته، على شحذ الحرب الأهلية – الإقليمية المديدة في لبنان، وتهديد الأمن الأردني من خلال عبوات الموت، وابتزاز الأمن التركي عبر دعم «حزب العمال الكردستاني»، والمساهمة النشطة في ترويع العراق عبر إيصال الإرهابيين، التكفيريين منهم وغير التكفيريين، إليه.
ولأن سوريا بلد فائق الأهمية فأمره لا يقتصر على إسقاط نظام، مع الاحتفاظ بالعدة التاريخية الموروثة بما في ذلك العدة الإيديولوجية لذاك النظام نفسه. فهنا نحن أمام حالة مصغرة عن التعامل مع بلدان كألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها بلداناً تقودها ظروفها الداخلية إلى توتير مناطقها الإقليميّة وتوتير العالم تالياً.
وهذه مسؤولية فائقة يمليها التاريخ، فضلاً عن السياسة، علماً بأن حامل هذه السياسة سيئ الحظ تعريفاً، لا يحسد على الخيارات المتروكة له. لكن ما العمل إذا كانت هذه هي الخيارات التي تركها لنا تاريخ كهذا، وصارت وحدها الكفيلة بإخراج سوريا والسوريين ومنطقة المشرق من حلقة مفرغة إلا من الدم؟
فمن أجل أن تكسب المعارضة هذه الجولة التي ربما كانت أخطر من سابقاتها جميعاً، لابد أن تجد نفسها أمام مطالبات أكثر راديكالية، مطالبات لا تقتصر على تصريحات عابرة وحسنة النوايا. وغابة العالم غير شجرة «جبهة النصرة» في آخر المطاف.
نقلاً عن صحيفة «الحياة» اللندنية
وإذا صحت المعلومات القائلة إن التقدم الجزئي الذي أحرزته القوات النظامية في الأسابيع القليلة الماضية ناجم عن تناقص الذخيرة والإمدادات لدى المعارضين، مقابل أسلحة وإمدادات روسية وإيرانية جديدة حصل عليها النظام، جاز للأسد أن يستنتج ما استنتجه وأن يبني عليه ما بناه.
فهو، كتلميذ نجيب لمدرسة «الأوراق» التي تحتقر الشعوب ومبادراتها، يذهب إلى النبع وينظر إلى الغابة بدل الشجرة. صحيح أن التعليقات التي صدرت عن الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية تقطع بأن الرئيس السوري لم ينجح في مخاطبة الذين أراد أن يخاطبهم. بيد أن هذا لا يكفي بتاتاً ما لم يقترن بسلوك أكثر مبادرة وإقداماً تسلكه تلك الدول القادرة وحدها على حسم الصراع المعلق والمكلف.
وهنا، وأمام المنعطف الكبير والخطير الذي يؤشر إليه الخطاب التصعيدي، ولتقصير طريق العنف والموت، يستحسن بالمعارضة أن تنظر، هي أيضاً، إلى الغابة بدل الشجرة. وأول النظر إلى الغابة طمأنة العالم الديمقراطي إلى أن سوريا الجديدة ستكون جزءاً منه. وسوريا، أقله منذ أواسط الخمسينات، لم تكن كذلك. فهي أول من انعطف، في العالم العربي، نحو التسلح السوفيتي والشرقي، وذلك قبل أن يقدم جمال عبدالناصر على «كسر احتكار السلاح». وهي تحدت كل منظومة الدولة – الأمة في المنطقة بوحدتها، عام 1958، مع مصر. أما مع البعث، ومع حافظ الأسد تحديداً، فتحولت تلك السياسات الضدية من هواية إلى احتراف، ومن مواقف مبعثرة إلى نهج متماسك.
ذاك أن سياسة الأسد في اللاحرب واللاسلم منعت عن منطقة المشرق، لسنوات ترقى إلى 1974، كل استقرار سياسي على قاعدة السلام الأهلي ومنظومة الدولة – الأمة. وكانت لذلك مضاعفات كبرى لم تقتصر، فضلاً عن قمع المجتمع السوري وكبته، على شحذ الحرب الأهلية – الإقليمية المديدة في لبنان، وتهديد الأمن الأردني من خلال عبوات الموت، وابتزاز الأمن التركي عبر دعم «حزب العمال الكردستاني»، والمساهمة النشطة في ترويع العراق عبر إيصال الإرهابيين، التكفيريين منهم وغير التكفيريين، إليه.
ولأن سوريا بلد فائق الأهمية فأمره لا يقتصر على إسقاط نظام، مع الاحتفاظ بالعدة التاريخية الموروثة بما في ذلك العدة الإيديولوجية لذاك النظام نفسه. فهنا نحن أمام حالة مصغرة عن التعامل مع بلدان كألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها بلداناً تقودها ظروفها الداخلية إلى توتير مناطقها الإقليميّة وتوتير العالم تالياً.
وهذه مسؤولية فائقة يمليها التاريخ، فضلاً عن السياسة، علماً بأن حامل هذه السياسة سيئ الحظ تعريفاً، لا يحسد على الخيارات المتروكة له. لكن ما العمل إذا كانت هذه هي الخيارات التي تركها لنا تاريخ كهذا، وصارت وحدها الكفيلة بإخراج سوريا والسوريين ومنطقة المشرق من حلقة مفرغة إلا من الدم؟
فمن أجل أن تكسب المعارضة هذه الجولة التي ربما كانت أخطر من سابقاتها جميعاً، لابد أن تجد نفسها أمام مطالبات أكثر راديكالية، مطالبات لا تقتصر على تصريحات عابرة وحسنة النوايا. وغابة العالم غير شجرة «جبهة النصرة» في آخر المطاف.
نقلاً عن صحيفة «الحياة» اللندنية