لم يكنّ شعوراً عادياً ذاك الذي انتابني وأنا أرى صورة جمال عبد الناصر مرفوعة جنباً إلى جنب مع أعلام تونس وفلسطين وسوريا في المسيرات الشعبية التي ملأت شارع الحبيب بورقيبة في الذكرى الثانية لثورة 14 كانون الثاني 2012، وهو الشارع الذي حسم فيه التونسيون ثورتهم التاريخية، وخرج فيه صاحب المقهى التونسي البهي يصرخ بأعلى صوته: “هرمنا هرمنا بانتظار هذا اليوم”.
سيقال الكثير عن تلك المسيرات الجامعة التي أعادت بعض التوازن إلى المشهد السياسي التونسي، وأكّدت ما قاله زعيم حركة النهضة الدكتور راشد الغنوشي في أربعينية المفكّر والمناضل والمحامي التونسي الراحل محمد المسعود الشابي، “بأن ما من فريق أو تيار بمفرده يمكن أن يحكم تونس، أو يواجه التحديات”، لكن حادثة ظهور صورة جمال عبد الناصر في الشارع التونسي، الذي يضجّ حيوية هذه الأيام، في ذكرى ميلاده تحمل في طياتها أكثر من معنى.
فعلى الصعيد الأخلاقي هي تعبير عن وفاء أصيل لدى أبناء الأمّة تجاه قادة مخلصين حملوا هموم الأمة في وجدانهم وسعوا مخلصين لتحقيق أهدافها.
وعلى الصعيد السياسي، فالوفاء لجمال عبد الناصر ليس وقفة مع الماضي الجميل فحسب، بل هو دعوة من أجل المستقبل العربي الذي إما أن يكون عابقاً بالوحدة أو لا يكون.
صحيح إن جمال عبد الناصر ورفاقه الضباط الأحرار لم يضعوا الوحدة العربية هدفاً بين أهداف الثورة الستّ، ولكن عظمة القائد الراحل أنه اكتشف، وبسرعة، القوانين الحاكمة لحركة التاريخ في مصر والأمة، مدركاً أن الوحدة العربية، التي لم تغب بعد ذلك عن مواقفه وخطبه وأفكاره، والتي قاد على طريقها أول تجربة وحدوية عملية مع سوريا، إنما تحمل في طياتها ردوداً على مجمل التحديات التي تواجهها الأمة.
فجمال عبد الناصر دافع عن مصر بوجه العدوان الثلاثي عام 1956 بقوة الوحدة العربية، وتحديداً بوحدة النضال الشعبي العربي من المحيط إلى الخليج.
وجمال عبد الناصر واجه الأحلاف والمشاريع الاستعمارية بقوة الوحدة العربية، وخصوصاً بوحدة الحركة الشعبية العربية على امتداد الوطن الكبير.
وجمال عبد الناصر واجه آثار هزيمة جزيران 1967، بقوة التضامن الشعبي العربي الذي تجلّى بأبهى صوره في قمة الخرطوم ولاءاتها الثلاث الشهيرة.
وعبد الناصر استعاد لمصر موقعها القيادي بقوة الوحدة العربية التي جعلته قائداً لأمة، وليس مجرد قائد لقطر، حتى ولو كان بحجم مصر ووزنها وثقلها.
وعبد الناصر أدرك بحسه التاريخي، ووعيه الموضوعي أن الوحدة العربية ليست حقيقة متجذّرة في عمق تاريخنا فحسب، ولا هي حقيقة تفرض قوانين حركتها في مواجهة تحديات الواقع وتردياته فقط، بل هي الإجابة الصارخة على الأسئلة المقلقة والعالقة في عقل الأمة ووجدانها.
فالوحدة العربية هي الضمانة لوحدة الكيانات الوطنية، ونظرة سريعة حولنا اليوم، تظهر أن تراجع العمل الوحدوي العربي انعكس تفتيتاً وتمزقاً متفاقماً لهذه الكيانات والمجتمعات، وهو أمر لم يكن وارداً في زمن المدّ الوحدوي العربي.
والوحدة العربية هي الضمانة للأمن الوطني والقومي للأمة بكل أقطارها، ونظرة حولنا اليوم تكشف لنا أن تراجع الحركة القومية العربية التي قادها جمال عبدالناصر ومعه أحزاب وحركات قومية قد أدى إلى انكشاف أمن الأمة قومياً، وأمن كل قطر من أقطارها على الصعيدالوطني.
والوحدة العربية هي الضمانة للاستقلال الوطني والقومي، وغياب حركتها اليوم يفسر تعاظم الانتهاكات الخارجية والتدخلات الأجنبية والمطامع الإقليمية في كل أرجاء بلادنا العربية.
والوحدة العربية هي ضمانة الديمقراطية بوجهيها السياسي والاجتماعي، لأن اتساع القاعدة البشرية لكيان الوحدة، يشكّل رادعاً لقمع الأنظمة من جهة، كما يوفر تربة صالحة للعدل الاجتماعي والتوزيع المتكافىء للثروة بين أبناء الأمة كما بين أقطارها.
والوحدة العربية هي ضمانة قيام تنمية مستقلّة حقيقية، فلا نجد أقطار تعاني الفقر والجوع، وأخرى تعاني الترف والتخمة، بل وطن كبير بسوق واسعة وموارد بشرية وطبيعية زاخرة.
الوحدة العربية هي بالتأكيد ضمانة للأمة على طريق استعادة دورها في عالم لا مكان فيه للكيانات الصغيرة، بل على طريق أدائها لرسالتها الإنسانية الخالدة، ولتجديد إرثها الحضاري الجامع والعابر لعرقيات وأثنيات وطوائف ومذاهب، فلا تزدهر العصبيات المريضة إلاّ في الكيانات الصغيرة العاجزة عن توحيد مجتمعاتها، وعن إعلاء شأن المواطنة بوجه كل تمييز.
وإذا كانت صورة عبد الناصر التي تعلو في الميادين الثائرة هي إحدى حقائق اليوم، وإذا كان الأوفياء له ما زالوا قابضين على جمر تعلقهم بنهجه وسيرته، فإن الوفاء الحقيقي للقائد الكبير لا يكون إلاّ بتجديد نداء الوحدة، وطنية وقومية، وإلاّ بتفعيل النضال من أجلها عبر آليات تكاملية متدرجة في الاقتصاد والثقافة والتربية والتشريع والانتقال الحرّ والسريع ودون عوائق للأشخاص والسلع وعبر سكّة حديد عربية واحدة، وهي أمور ليس من الصعب إنجازها، ولا يتطلب إلاّ تطبيق كل قرارات العمل العربي المشترك وتوصياته.
ونداء الوحدة اليوم هو دعوة لكل الوحدويين في الأمة، من كل المنابت الفكرية والسياسية والاجتماعية، لكي يتلاقوا عبر ملتقى للوحدة العربية ليتدارسوا سبل استنهاض الفعل الوحدوي وآلياته وسبل توحيد القوى المؤمنة بالوحدة في أطر عمل مشتركة تتجاوز كل العقليات الفئوية الضيقة، والمصالح الذاتية المدمرة.
فهل نخطو بهذا الاتجاه ولو خطوة واحدة، فنقيم تكاملاً وحدوياً بين أقاليم الأمة، بين بلاد الشام وبلاد الرافدين، بين بلاد وادي النيل، بين بلاد المغرب العربي، وبين بلاد الخليج والجزيرة العربية، تكاملاً يقود إلى اتحاداً عربياً ديمقراطياً يشكّل ركيزة مشروع عربي مستقل في المنطقة.
وهل نخطو خطوة واحدة باتجاه الوحدة لكي نطهّر الحراك الشعبي العربي من “تعاليم” الصهيوني - الفرنسي هنري برنار ليفي الذي قال: “إن محنة سوريا بدأت منذ وحدتها مع مصر”، داعياً إلى إسقاط علم الوحدة، ومعلناً بكل صفاقة أن ما يقوم به في بعض البلدان العربية إنما هو خدمة لما يسميه بلده الأصلي “إسرائيل”.
{{ article.visit_count }}
سيقال الكثير عن تلك المسيرات الجامعة التي أعادت بعض التوازن إلى المشهد السياسي التونسي، وأكّدت ما قاله زعيم حركة النهضة الدكتور راشد الغنوشي في أربعينية المفكّر والمناضل والمحامي التونسي الراحل محمد المسعود الشابي، “بأن ما من فريق أو تيار بمفرده يمكن أن يحكم تونس، أو يواجه التحديات”، لكن حادثة ظهور صورة جمال عبد الناصر في الشارع التونسي، الذي يضجّ حيوية هذه الأيام، في ذكرى ميلاده تحمل في طياتها أكثر من معنى.
فعلى الصعيد الأخلاقي هي تعبير عن وفاء أصيل لدى أبناء الأمّة تجاه قادة مخلصين حملوا هموم الأمة في وجدانهم وسعوا مخلصين لتحقيق أهدافها.
وعلى الصعيد السياسي، فالوفاء لجمال عبد الناصر ليس وقفة مع الماضي الجميل فحسب، بل هو دعوة من أجل المستقبل العربي الذي إما أن يكون عابقاً بالوحدة أو لا يكون.
صحيح إن جمال عبد الناصر ورفاقه الضباط الأحرار لم يضعوا الوحدة العربية هدفاً بين أهداف الثورة الستّ، ولكن عظمة القائد الراحل أنه اكتشف، وبسرعة، القوانين الحاكمة لحركة التاريخ في مصر والأمة، مدركاً أن الوحدة العربية، التي لم تغب بعد ذلك عن مواقفه وخطبه وأفكاره، والتي قاد على طريقها أول تجربة وحدوية عملية مع سوريا، إنما تحمل في طياتها ردوداً على مجمل التحديات التي تواجهها الأمة.
فجمال عبد الناصر دافع عن مصر بوجه العدوان الثلاثي عام 1956 بقوة الوحدة العربية، وتحديداً بوحدة النضال الشعبي العربي من المحيط إلى الخليج.
وجمال عبد الناصر واجه الأحلاف والمشاريع الاستعمارية بقوة الوحدة العربية، وخصوصاً بوحدة الحركة الشعبية العربية على امتداد الوطن الكبير.
وجمال عبد الناصر واجه آثار هزيمة جزيران 1967، بقوة التضامن الشعبي العربي الذي تجلّى بأبهى صوره في قمة الخرطوم ولاءاتها الثلاث الشهيرة.
وعبد الناصر استعاد لمصر موقعها القيادي بقوة الوحدة العربية التي جعلته قائداً لأمة، وليس مجرد قائد لقطر، حتى ولو كان بحجم مصر ووزنها وثقلها.
وعبد الناصر أدرك بحسه التاريخي، ووعيه الموضوعي أن الوحدة العربية ليست حقيقة متجذّرة في عمق تاريخنا فحسب، ولا هي حقيقة تفرض قوانين حركتها في مواجهة تحديات الواقع وتردياته فقط، بل هي الإجابة الصارخة على الأسئلة المقلقة والعالقة في عقل الأمة ووجدانها.
فالوحدة العربية هي الضمانة لوحدة الكيانات الوطنية، ونظرة سريعة حولنا اليوم، تظهر أن تراجع العمل الوحدوي العربي انعكس تفتيتاً وتمزقاً متفاقماً لهذه الكيانات والمجتمعات، وهو أمر لم يكن وارداً في زمن المدّ الوحدوي العربي.
والوحدة العربية هي الضمانة للأمن الوطني والقومي للأمة بكل أقطارها، ونظرة حولنا اليوم تكشف لنا أن تراجع الحركة القومية العربية التي قادها جمال عبدالناصر ومعه أحزاب وحركات قومية قد أدى إلى انكشاف أمن الأمة قومياً، وأمن كل قطر من أقطارها على الصعيدالوطني.
والوحدة العربية هي الضمانة للاستقلال الوطني والقومي، وغياب حركتها اليوم يفسر تعاظم الانتهاكات الخارجية والتدخلات الأجنبية والمطامع الإقليمية في كل أرجاء بلادنا العربية.
والوحدة العربية هي ضمانة الديمقراطية بوجهيها السياسي والاجتماعي، لأن اتساع القاعدة البشرية لكيان الوحدة، يشكّل رادعاً لقمع الأنظمة من جهة، كما يوفر تربة صالحة للعدل الاجتماعي والتوزيع المتكافىء للثروة بين أبناء الأمة كما بين أقطارها.
والوحدة العربية هي ضمانة قيام تنمية مستقلّة حقيقية، فلا نجد أقطار تعاني الفقر والجوع، وأخرى تعاني الترف والتخمة، بل وطن كبير بسوق واسعة وموارد بشرية وطبيعية زاخرة.
الوحدة العربية هي بالتأكيد ضمانة للأمة على طريق استعادة دورها في عالم لا مكان فيه للكيانات الصغيرة، بل على طريق أدائها لرسالتها الإنسانية الخالدة، ولتجديد إرثها الحضاري الجامع والعابر لعرقيات وأثنيات وطوائف ومذاهب، فلا تزدهر العصبيات المريضة إلاّ في الكيانات الصغيرة العاجزة عن توحيد مجتمعاتها، وعن إعلاء شأن المواطنة بوجه كل تمييز.
وإذا كانت صورة عبد الناصر التي تعلو في الميادين الثائرة هي إحدى حقائق اليوم، وإذا كان الأوفياء له ما زالوا قابضين على جمر تعلقهم بنهجه وسيرته، فإن الوفاء الحقيقي للقائد الكبير لا يكون إلاّ بتجديد نداء الوحدة، وطنية وقومية، وإلاّ بتفعيل النضال من أجلها عبر آليات تكاملية متدرجة في الاقتصاد والثقافة والتربية والتشريع والانتقال الحرّ والسريع ودون عوائق للأشخاص والسلع وعبر سكّة حديد عربية واحدة، وهي أمور ليس من الصعب إنجازها، ولا يتطلب إلاّ تطبيق كل قرارات العمل العربي المشترك وتوصياته.
ونداء الوحدة اليوم هو دعوة لكل الوحدويين في الأمة، من كل المنابت الفكرية والسياسية والاجتماعية، لكي يتلاقوا عبر ملتقى للوحدة العربية ليتدارسوا سبل استنهاض الفعل الوحدوي وآلياته وسبل توحيد القوى المؤمنة بالوحدة في أطر عمل مشتركة تتجاوز كل العقليات الفئوية الضيقة، والمصالح الذاتية المدمرة.
فهل نخطو بهذا الاتجاه ولو خطوة واحدة، فنقيم تكاملاً وحدوياً بين أقاليم الأمة، بين بلاد الشام وبلاد الرافدين، بين بلاد وادي النيل، بين بلاد المغرب العربي، وبين بلاد الخليج والجزيرة العربية، تكاملاً يقود إلى اتحاداً عربياً ديمقراطياً يشكّل ركيزة مشروع عربي مستقل في المنطقة.
وهل نخطو خطوة واحدة باتجاه الوحدة لكي نطهّر الحراك الشعبي العربي من “تعاليم” الصهيوني - الفرنسي هنري برنار ليفي الذي قال: “إن محنة سوريا بدأت منذ وحدتها مع مصر”، داعياً إلى إسقاط علم الوحدة، ومعلناً بكل صفاقة أن ما يقوم به في بعض البلدان العربية إنما هو خدمة لما يسميه بلده الأصلي “إسرائيل”.