منذ أكثر من أربعين عاماً؛ تعرفت على منطقة الخليج العربي حيث عملت في سفارات مصر في الكويت والإمارات العربية المتحدة في أوائل السبعينات اثر استقلال معظم دول الخليج العربي، وعشت متابعاً لتجربة النمو في تلك الدول من بعيد، ثم عدت للكويت عام 1986 مشاركاً في وفد مصر في القمة الإسلامية التي عادت فيها مصر لاستئناف دورها في منظمة المؤتمر الإسلامي آنذاك، بعد انقطاع منذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والعجيب أن معظم المشاركين في المؤتمر، أو بعضهم، اكتشف أن عضوية مصر لم يتم وقفها أو إلغاؤها، إنما روج البعض لذلك بعد اجتماع للمؤتمر إثر معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وهذا من مفارقات بعض الاجتماعات العربية، حيث عدم الدقة في القرارات والبيانات وعدم التدقيق أو الاطلاع على الأوراق والملفات. ثم شاء القدر أن أكون نائباً وقائماً بالأعمال لرئيس وفد مصر في الأمم المتحدة بنيويورك أثناء غزو العراق للكويت ثم تحريرها، وتعاونت مع رئيس وفد الكويت زميل الدراسة بالجامعة السفير المميز محمد أبو الحسن، ذي الحس الوطني العالي والنشاط الدائب الذي عرف به في دهاليز الأمم المتحدة فضلا عن الروح الودود، وقد أصبح وزيراً للإعلام ثم مستشاراً لسمو الأمير بعد ذلك، كما تعاونت مع مختلف الوفود العربية والدول الأعضاء في مجلس الأمن من أجل حشد الرأي العام الدولي للدفاع عن الكويت، وكان ذلك هو موقف مصر التي تتمسك دائماً بمبادئها رغم مواقف الآخرين.
المهم عدت من نيويورك لأجد نفسي مندوباً دائماً لمصر بجامعة الدول العربية، وأعددت كتاباً عن جامعة الدول العربية وحقوق الإنسان أرسلته للنشر بالمجلس الأعلى للثقافة في الكويت، وآخر عن العالم العربي في مفترق الطرق. وقد تلقيت رسالة تشيد بالبحوث والاعتذار عن النشر بدعوى أن ما ورد في هذه الكتب أكبر مما تحتمله الأوضاع في منطقة الخليج، فقمت بعد ذلك بنشر الكتابين في مصر.
الهدف من ذكر تلك الأحداث هو توضيح ما كان عليه الخليج العربي ودوله في السبعينات حتى التسعينات من القرن العشرين، وما أصبح عليه في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
ثم تابعت أوضاع منطقة الخليج عن بعد، حتى شاء الله أن أُدعى للعمل في جامعة البحرين ثم مركز البحرين للدراسات والبحوث آنذاك، ثم وزارة الخارجية، المهم في الأمر أنه أتيحت لي فرصة مراقبة تطور الأوضاع في الدول الخليجية عن قرب، والتعرف على كيفية تغير أوضاعها بين عامي 1971 و2012، أي أربعين عاماً ونصف. فوجدت التغيرات ضخمة من حيث مستوى المعيشة والعمران والتطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، رغم أن الأخير مازال في مرحلة أقل من التطور الاقتصادي، لكن التطور الثقافي مازال في مرحلة جنينية ما عدا التطور التعليمي. المهم واللافت للنظر هو ثلاثة أمور الأول: تطور المفهوم الخليجي والإحساس بالهوية الخليجية، إذ تم إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي قطع شوطاً في بناء هوية اقتصادية وثقافية وسياسية عربية خليجية، وقطع شوطاً في بناء إطار أمني خليجي، وها هو على أبواب الانطلاق إلى مرحلة الوحدة الخليجية العربية.
الأمر الثاني: يرتبط بالدور العربي لدول الخليج العربية؛ فقد كان الدور في الماضي دوراً هادئاً يتسم بالحياء، لذلك استطاع إرهاب بعض النظم المسماة آنذاك بدول الرفض والممانعة والصمود وغير ذلك من الأسماء توجيه تهديدات لدول الخليج ما لم تقطع علاقاتها مع مصر، وهو ما قامت به على مضض، وبعد تردد وتحت الضغط. لكن ظلت العلاقات الاقتصادية والثقافية والتعليمية وثيقة، بل ربما أكثر من مرحلة المد القومي العربي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي لأن النفط لم يكن له تأثير كبير آنذاك كما حدث في مرحلة لاحقة.
الأمر الثالث: إن الوزن السياسي الدولي لدول الخليج العربية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي كان محدوداً، وكان الكثير من أنشطة الدبلوماسية الخليجية تسير في الإطار العام، وما أطلق عليه الإجماع العربي، وهو ليس إجماعاً حقيقياً إنما توافق من منظور سلبي، في الإطار الدولي كان هذا الدور يكاد يكون باهتاً أو نحو ذلك. وهذا لا يتعارض مع وجود عمالقة في الدبلوماسية الخليجية مثل الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة والأمير سعود الفيصل والشيخ صباح الأحمد الصباح، الذي أصبح أميراً للكويت فيما بعد. ولا يتعارض مع وجود شخصيات لعبت دوراً عربياً ودولياً رائداً مثل المغفور له الملك فيصل صاحب قرار استخدم النفط كسلاح في الدفاع عن القضايا العربية في غمار حرب أكتوبر التي أطلقها الجيش المصري بتنسيق وتعاون مع الجيش السوري وفي ظل قيادات الدولتين آنذاك اللتين سرعان ما اختلفت توجهاتهما. فاتجهت مصر نحو الصلح كموقف استراتيجي برؤية مستقبلية، وانطلق الرئيس أنور السادات إلى عقد اتفاقيات كامب دايفيد التي رفضها العرب والفلسطينيون، ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ولكن جبهة الصمود رفعت شعار “لا حرب بلا مصر ولا سلام بلا سوريا” وكان هذا شعاراً صادقاً، لأنه يعبر عن موازين القوى العربية والنشاط السياسي الأيدولوجي للدولتين.
ظل لهذا الشعار قدر لا بأس منه من المصداقية؛ لكنه كان يعبر عن السلبية ومن ثم تراجع الموقف العربي عامة في ظل استمرار الدبلوماسية العربية في الدوران في حلقة مفرغة لإصدار قرارات من المنظمات الدولية، خصوصاً الأمم المتحدة، تطالب بالانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان وجنوب لبنان، ولا شك أن القرارات في السياسة الدولية ليست إلا أوراق للأرشيف، والسياسة الحقيقية تصنعها القوة في الاقتصاد والعسكرية والتكنولوجيا.
الشعار الثاني المرتبط بالأول هو شعار “جبهة الصمود والتصدي” ثم تحولها إلى “جبهة الممانعة” الأكثر دقة ومصداقية، لأن ما حدث هو الممانعة والأدق هو الامتناع أو الجمود، لذلك أطلق بعض المصريين على تلك الجبهة اسم “جبهة الجمود والتردي”؛ أي محلك سر على أحسن الفروض دون تحرير شبر واحد من الأرض المحتلة على مدى أربعين عاماً، بل زادت غطرسة إسرائيل وتمزقت أرض فلسطين إلى كانتونات أو ما يشبه ذلك، وأصبح العرب حيارى، فتوصلوا في قمة بيروت 2002 إلى مبادرة السلام العربية بناء على مبادرة سعودية، مثل المبادرة السعودية في قمة الرباط قبلها عام 1982، بالاعتراف الضمني بإسرائيل وإطلاق مبدأ الأرض مقابل السلام، لكن أي أرض وأي سلام؛ لا أحد يدري؟ لأن معظم الأرض المحتلة انتشرت فيها المستوطنات، ولا يمكن لإسرائيل أن تتركها إلا بقيام حرب عالمية وأن ينتصر فيها العرب وتهزم أمريكا والدول الغربية وإسرائيل وأعوانها، وهيهات أن يحدث ذلك على أحسن الفروض في الخمسين سنة القادمة.
انطلق أهل الخليج حكاماً وشعوبًا في بناء بلادهم وتحقيق التقدم لشعوبها، بينما ظلت الدول الممانعة والثورية وغير الثورية في شرق العالم العربي وغربه وشماله وجنوبه تزداد شعوبها فقراً وحكامها ثراء من النهب المنظم لثرواتها، أو تبديد تلك الثروات في مغامرات عسكرية والحرب ضد طواحين الهواء بالشعارات الجوفاء، وهذه الدول معروفة ولا داعي لذكرها؛ فهي تعاني من توجيه مؤامراتها الطائفية ومعداتها العسكرية ضد شعوبها. فقد جاءت ثورات الربيع العربي لتعصف بنظمها السياسية وحكامها ومازال بعضهم قابعين تحت حماية القوى العظمى التي كثيراً ما حاربوها بالشعارات الثورية أو حماية دول الجيران التي سبق وشنوا ضدها الحروب.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}