الحديث عن الطائفية هو حديث في الأيديولوجيا العابرة للقارات، إنه حديث يتجاوز المفاهيم الوطنية والقومية إلى الحديث عن الوحدة الإسلامية، حسب تصور كل طائفة طبعاً، في الماضي كانت تلك ميزة «إسلامية» تروجها الأحزاب الإسلامية وتضرب بها التيارات اليسارية والليبرالية، أما اليوم وقد بدأت مغانم تلك الحجة تُجنى ثمارها فقد بدأ الكثيرون يستشعرون خطر تلك الأفكار الأيديولولجية على الهوية الوطنية وعلى الأمن الوطني!!
إن القرن الحادي والعشرين هو، حقاً، قرن الطائفية في العالم العربي، إنه القرن الذي انتثرت فيه الفضائيات الطائفية تروج لمصطحات الروافض والنواصب، ولحديث «الغدير» و»الدعاء على الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما»، وتروج لحديث «الشاب الأمرد»، والخلاف حول شخصية معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد، وكلها قضايا كفا الله المسلمين شر فتنتها قروناً طويلة، لكنها بُعثت من جديد كأنها وقعت في الأمس القريب.
(1)
ثمة حدث مهم في الأسبوع المنصرم وهو زيارة وزير الخارجية الإيرانية علي أكبر صالحي لمصر حيث التقى شيخ الأزهر الإمام الأكبر د. أحمد الطيب الذي وجه دعوة لإيران عبر صالحي تتضمن إعطاء المواطنين السُنة في إيران حقوقهم المذهبية والسياسية كاملة، وطالب المرجعيات الشيعية في إيران بإصدار فتاوى صريحة بتحريم سب الصحابة الكرام، ومنع التعرض لشرف السيدة عائشة رضي الله عنها، كما طالب شيخ الأزهر إيران بالكف عن التدخل في شؤون الدول الخليجية، وبين شيخ الأزهر أن دعوته هذه مصدرها كونه المسؤول عن كل المسلمين المستضعفين في كل مكان، وعلى الرغم من تقديرنا لتصريحات شيخ الأزهر في نصرة الأقلية السنية المضطهدة، وفي المطالبة بضبط الخطاب الديني الشيعي، لكن الإمام أحمد الطيب لم يتجاوز في أدائه لمسؤوليته التي يمنحها موقعه المتمثل في المقام الرفيع لمشيخة الأزهر وهي مؤسسة ضخمة وثقيلة في ميزان الإسلام، لم يتجاوز مستوى التصريحات!! فهل يسعى شيخ الأزهر أن يطرح نفسه إماماً للسنة في مقابل إمام الشيعة علي خامنئي؟
وهل الوقوف عند حدود التصريحات هو دور الأزهر الشريف وحدود إمكاناته؟
هذا المشهد يذكرنا بموقف الرئيس المصري محمد مرسي في افتتاح مؤتمر عدم الانحياز الأخير في إيران حين ترضى عن الصحابة الكرام في إشارة واضحة إلى تحدٍ مذهبي لإيران الشيعية، والسؤال هنا هل تُختزل إيران في تشيعها؟ وهل يواجه الطاووس الفارسي الذي فرد جناحيه وذيله على الدول العربية كافة بـ «المماحكة» المذهبية ؟!!
(2)
البراجماتية التي أثبتتها أحزاب «الإخوان المسلمين» التي وصلت إلى السلطة في مصر وتونس أقلقت الشعوب العربية، كما أقلقت الحكومات أيضاً، ففي اليمن وسوريا مخاوف من سيطرة أحزاب «الإخوان المسلمين» على الحكم والدخول في المهاترات الأيديولوجية ذاتها التي جرها حزب «النهضة» في تونس، وحزب «الحرية والعدالة» في مصر على شعوبهم، وأدت إلى تعطل الحركة التنموية وتأخر بناء الدولة المرتقبة خصوصاً أن اليمن وسوريا تحديداً تواجهان مشكلة التعددية السياسية الحزبية والجهوية وغيرها من تحديات التعددية التي تحتاج لمشروع وطني وحدوي يتجاوز هذه الخلاقات إلى تأسيس دولة المواطنة والعدالة. وفي الأردن هناك تفسيرات عديدة لهدوء موجة الاحتجاجات الكبيرة التي رافقت ارتفاع الأسعار، وأغلبها يشير إلى تذبذب موقف حزب «جبهة العمل الإسلامي» «إخوان مسلمين» في التعامل مع باقي عناصر الحراك، ودخول الجبهة في اتصالات مع الحكومة الأردنية دون التنسيق مع الحراك، وكان المعارض الأردني ليث شبيلات قد انتقد «الجبهة»، وبعض التيارات في المعارضة، التي وصفها بالمعارضة «النص كم» على حسب تعبيره، وهي التي تزج بالشباب المتحمس لرفع شعار «إسقاط النظام» ثم تتخلى عنه بعد أن يزج بهم في السجون والمعتقلات!!
(3)
يبدو الاستقطاب على أشده في دول الخليج العربية بسبب التعددية المذهبية فيها، فبعد سقوط العراق في أيدي الأحزاب السياسية الشيعية الموالية لإيران، اشتدت المعارضة الشيعية في كل من البحرين والقطيف، وارتفع سقف مطالبها خارج الإجماع الوطني، ودخلت في علاقات خارجية متعددة، وبرزت ظاهرة الحوثيين، وهددت المملكة العربية السعودية، وارتفع صوت إيران في الاستقواء على دول الخليج العربي، بتهديد استقلال البحرين واستفزاز الإمارات، بزيارات المسؤولين الإيرانيين للجزر الإماراتية المحتلة، ومؤخراً بعد تعديل النظام الانتخابي في الكويت قاطعت الانتخابات «الأغلبية» المعارضة التي يسطر عليها التيار الإسلامي «السني» المتحالف مع القبائل مما أدى إلى سيطرة «الأقلية» الشيعة على البرلمان في وضع سيزيد من حالة الاستقطاب الطائفي في الكويت.
وكانت دول الخليج قد احتضنت الجمعيات الإسلامية السنية، ووجدت في التيار الإسلامي بديلاً مناسباً للأعراف القبلية ولطبيعة المجتمع عن التيار اليساري والقومي، الذي كان مسيطراً على الساحة العربية في الخمسينات والستينات، ومن بين تلك التيارات التي احتضنتها دول الخليج جماعة «الإخوان المسليمن»، حيث استضافت السعودية العديد من «إخوان مصر» الفارين من نظام جمال عبدالناصر، وأسس الخليجيون المتأثرون بأفكار الإخوان المسلمين جمعيات خيرية ودعوية منتمية للجماعة الأم في مصر في كل دول الخليج العربي تقريباً وأغلبها تحت اسم «جمعية الإصلاح»، وكان لإخوان الخليج نفوذ واضح في الجانب المالي والتعليمي وكانوا جزءاً من النسيج الخليجي المنسجم ومن الخط الإسلامي المعتدل الذي ساهم في الاستقرار الاجتماعي والسياسي في الخليج .
(4)
لم يفسد شهر العسل الطويل هذا بين الحكومات الخليجية والإخوان المسلمين إلا خروج إخوان دولة الإمارات عن السرب وركوبهم موجة الربيع العربي، بتنظيم مسيرات ومطالبات باسم «جمعية الإصلاح» نفسها، وتعاونهم مع منظمات حقوقية دولية، ونتج عن ذلك اعتقال دولة الإمارات العربية لهم، والإعلان عن خلية إماراتية تخطط لقلب نظام الحكم، وكان الموقف الذي أثار حفيظة دولة الإمارات والعديد من المراقبين هو تداعي «الإخوان المسلمين» من عدة دول مختلفة، وبمستويات متعددة من مفكرين ورجال دين وأعضاء في البرلمان المصري في الدفاع عن معتقلي الإمارات في سابقة لم يحظَ بها معتقل عربي آخر!!
وقد سبق هذا الحدث إرهاصات عديدة منها اتهام بعض رجال الأعمال الإماراتيين المقيمين في الخارج في القضية الخاصة بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين قبل عدة سنوات، ومنها قضية اغتيال عضو حركة «حماس» محمود المبحوح في إمارة دبي، وهو المسؤول عن ملف تسليح «حماس»، والتي تطرح أسئلة حول سبب تواجد المبحوح في الإمارات، وعن طبيعة اتصالات «حماس» بـ «إخوان الإمارات»؟
(5)
عاد الحديث مجدداً عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وخصوصاً في دول الخليج العربي، وبدأ الكتاب والمثقفون يتتبعون علاقة «إخوان الخليج» بـ «إخوان مصر» بدءاً من تأسيس جمعياتهم الخيرية والدعوية، وراحوا يتتبعون كذلك حركة المال الخليجي «الخيري» إلى مصر في ظل تساؤل المصريين أنفسهم عن مصدر التمويل الضخم لجماعة الإخوان المسلمين «المحظورة» طيلة الأعوام السابقة ورفض الجماعة توفيق أوضاعها القانوينة وإخضاع الجماعية للرقابة المالية والإدارية حتى الآن. ثمة مؤشرات كثيرة تدل على تعديل سياسات دول الخليج العربي بما يتناسب مع تنامي تيار الإسلام السياسي السني بعد موجة الربيع العربي، وأغلب هذه التعديلات تجري في السعودية، منها الفتوى الصادرة مؤخراً من مفتي المملكة العربية السعودية بعدم جواز الذهاب للجهاد في سوريا، والاكتفاء بإمداد أهلها بالمال، بعد أن تعددت الأطراف المقاتلة في سوريا، وعمت الفوضى في الملف السوري. ومنها القرارات الأخيرة لخادم الحرمين الشريفين العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز ال سعود بتعيين ثلاثين امرأة في مجلس الشورى، وكذلك تعديل تشكيل هيئة كبار العلماء والمجالس القضائية في السعودية، ودعم السعودية للحكومة الفلسطينية في رام الله «فتح» بـ 100 مليون دولار، وتلك مؤشرات تدل على محاولة ضبط ميزان قوة التيار الإسلامي وتحجيمه.
(6)
استشعرت حكومة الإخوان في مصر القلق الخليجي والإجراءات الجادة ضد أعضائها المصريين أو الخليجيين وخصوصاً تطور قضية الخلية الإخوانية الإماراتية، حيث اتهمت دولة الإمارات مجموعة من المصريين المقيمين فيها، والمنتمين لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، بالتورط في الخلية الإماراتية وتم القبض عليهم في ظل صمت حكومي مصري غريب، وحتى الآن، هناك تخبط حكومي مصري في علاج الملف الخارجي لمصر في العديد من القضايا، نتج عنها تضارب غريب في التصريحات وفي المواقف، ويبدو حسب بعض التحليلات الإخبارية أن حكومة مصر تلوح بتطوير العلاقات مع إيران لمواجهة الضغوط الخليجية، وهنا نعود لزيارة وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي لمصر وتلقي الرئيس المصري محمد مرسي دعوة رسمية من الرئيس الإيراني لزيارة إيران، والحديث عن عودة كاملة للعلاقات الدبلوماسية الإيرانية المصرية، وعودة رحلات الطيران بينهما وربما مساعدات مالية واستثمارات اقتصادية إيرانية ضخمة في مصر، وهناك حديث كذلك عن زيارة سرية لأحد أعضاء فيلق القدس الإيراني وزيارة سرية أخرى لوزير مخابرات دولة عربية داعمة للإخوان، ولقائه بمكتب الإرشاد «التابع لجماعة الإخوان المسلمين» فقط، دون تعريجه على مسؤولي المخابرات الأمنية والحربية!!
(7)
تعمل دول الخليج العربي الآن على ضبط موازين القوى الاستقطابية فيها، وهي ما بين التيارات الدينية الشيعية والسنية بمختلف مدارسها، وما بين دور الحكومات في إرساء التوازن، وبين التوافق مع حركات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وتطوير أدواتها الديمقراطية ، فكيف ستضبط هذه الدول هذه المعادلة متعددة الأطراف؟ وهل ستلعب مصر «الإخوانية» دوراً في هذه الاستقطابات عبر علاقتها بالتكوينات الإخوانية في الخليج واختلافها مع المدارس السلفية الخليجية وتطوير علاقتها بإيران؟ ربما يكون عام 2013 هو العام الذي سيجيب عن هذه التساؤلات.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}