بصورة عامة، وفي الفكر والسياسة، تحديداً، إذا لم يقترن انتقال المواقف من الضد إلى الضد بتحولات موضوعية تبرره، فإن من الجائز اتهام صاحبها بانتهازية الغرض، ما يفضي، (منطقياً)، إلى تعريض خطابه للارتباك، ومصاعب التسويق، وفقدان المصداقية. وأظن، وليس كل الظن إثماً، أن هذه هي حال تحولات مواقف «إخوان» مصر تجاه «إسرائيل» والولايات المتحدة بعد توليهم السلطة، وانتقالها من خطاب فاشل يعادي اليهود كيهود، إلى خطاب متهالك يدعو، بمناسبة ومن دون مناسبة، إلى «السلام» مع «إسرائيل» العدوانية التوسعية، وإلى الحفاظ على اتفاقات مصر معها. وبالمثل، من خطاب تائه لا يرى الأمريكي، إلا بوصفه «كافراً»، إلى خطاب يكرس التبعية والخضوع، سياسياً واقتصادياً، لهذا الأمريكي الذي أصبح، بقدرة قادر، وبمجرد تولي «الإخوان» السلطة، نموذجاً يُحتذى، ومدافعاً أصيلاً عن حقوق الإنسان العربي وصونها من الانتهاك، وداعماً نزيهاً لحق الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة.
في تناقض خطاب «إخوان» مصر تجاه «إسرائيل» وراعيها، الولايات المتحدة ما يدعو إلى حيرة لا يفك ألغازها سوى تمركز هذا الخطاب، بطوريه، على الوصول إلى السلطة، والاستحواذ عليها، وإقصاء المنافسين الداخليين عنها، فمعاداة «الإخوان»، (المعارضين)، لليهود كيهود، وراعيهم، الولايات المتحدة، ككافر، رامت «شيطنة» النظام المصري السابق، بغرض الحلول محله، وليس تغييره. وبالمثل، فإن دعوة «الإخوان»، (الحكام)، إلى «السلام» مع «إسرائيل» العدوانية التوسعية ذاتها، إنما تستهدف الاتكاء على راعيها الأمريكي إياه للحفاظ على السلطة، والتفرد بها، في مواجهة المنافس الداخلي الجديد الذي كان حتى الأمس القريب حليف «الإخوان» في الدعوة إلى «الشعب يريد إسقاط النظام»، ليس بوصفه مستبداً فاسداً، فحسب، لكن بوصفه، تابعاً وخاضعاً للأجنبي، أيضاً.
على أية حال، ربما فات قيادة «إخوان» مصر أن لعبة انتهازية «الغاية تبرر الوسيلة»، عموماً، وفي التعامل مع «إسرائيل»، وراعيها الأمريكي، تحديداً، لا تنطوي على فائدة صافية لمن يعارضها، (اللعبة)، وطنياً وقومياً، فقط، بل، وتقتضي، (وهنا الأهم)، دفْع أثمان لا حدود لها لمن استدرجهم إليها، أيضاً. فعلى المستوى الداخلي، قادت لعبة «الإخوان» هذه، (سريعاً)، إلى تراجع شعبيتهم وضرب مصداقيتهم، وإلى توحيد صفوف مناوئيهم السياسيين في جبهة واحدة، وإلى تنامي الوعي الشعبي بمخاطر سلطتهم على الاستقلال الوطني، وإلى ما ترتب على ذلك كله من استقطابات وانقسامات وطنية حادة، مكلفة، آخذة بالتوسع والتعمق، وتنذر بطول مشوار استقرار مصر، وتشعب مسار ثورتها، والتواءات طريقها، وجسامة تكاليف بلوغ أهدافها، لا في الحرية والديمقراطية والعدالة، فحسب، بل، وفي الاستقلال الوطني، أيضاً.
أما على المستوى الخارجي، غير المنفصل عن تعقيدات المستوى الداخلي، فقد تكشف لـ «الإخوان»، قبل غيرهم، وربما بصورة أسرع مما تخيلوا، أن الدعم الغربي لتوليهم السلطة، لم يكن سوى فاتحة لمقتضيات تبعية سلطتهم الكاملة للولايات المتحدة، سياسياً واقتصادياً، وخضوعها التام لشروط أمن ربيبتها، وحليفها الاستراتيجي الثابت في المنطقة، «إسرائيل». والشواهد على ذلك كثيرة، لكن، لعل من شأن التذكير بالشاهدين الأكثر دلالة، وإثارة للجدل، داخل مصر وخارجها، أن يساعد على تلمس ضخامة ما تريده الولايات المتحدة من «الإخوان»، ثمناً لدعمها لهم، سياسياً واقتصادياً، ولغضها النظر عن تفردهم بسلطة ما بعد انتفاضة 25 يناير. وهذان الشاهدان هما:
أولاً: الرسالة الطافحة بمشاعر الحب والود التي وجهها الرئيس المصري، مرسي، إلى الرئيس «الإسرائيلي»، بيريز الذي أمر، (على عكس ما أراد مُرْسلها)، بنشرها، وأعرب عن بالغ ترحيبه، وعظيم تفاجئه، بها، وشديد اندهاشه من دفئها. لكن رسالة الرئيس المصري هذه، عدا تصريحاته الكثيرة عن الرغبة في «السلام» مع «إسرائيل»، وفي الحفاظ على الاتفاقات الموقعة معها، والالتزام بها، لم تشفع له، لا عند قادة «إسرائيل»، ولا عند قادة راعيها، الولايات المتحدة، حيث قاموا بنبش سجله كقائد في جماعة «الإخوان»، واستخرجوا له تصريحات مسجلة بالصوت والصورة، كان أطلقها في العام 2010 يدعو فيها إلى «إرضاع الأطفال كراهية اليهود»، «أحفاد القردة والخنازير». هنا، ورغم أن قادة «إسرائيل» وأمريكا كانوا، (بلا ريب)، على علم قديم بهذه التصريحات، وبتصريحات أخرى مشابهة لقيادات «إخوانية»، فإنهم، وعلى عادتهم في ممارسة سياسة الابتزاز والإخضاع، أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وقاموا بشن حملة إعلامية منظمة، تتهم الرئيس المصري بـ «اللاسامية»، مطالبين إياه، على لسان الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، ثم على لسان وزارة الخارجية، بتقديم اعتذار رسمي ومعلن عن تلك التصريحات، ما اضطر الناطق باسم الرئاسة المصرية إلى القول: «لقد تم اجتزاء هذه التصريحات وإخراجها من السياق الذي قيلت فيه». ولعل من السذاجة بمكان الاعتقاد أن هذا التوضيح الذي يشبه الاعتذار سيضع حداً للابتزاز الذي يمارسه قاده «إسرائيل»، بدعم أمريكي ضد الرئيس المصري، وبالتالي ضد مصر.
ثانياً: في معرض الدفاع عن الدستور المصري الجديد المفروض، وبسبب عداء «الإخوان» الأيديولوجي المتأصل للتجربة الناصرية، لم يتورع عصام العريان عن اتهام عبد الناصر بطرد اليهود المصريين، داعياً إياهم إلى العودة إلى وطنهم مصر، حيث أصبح بمقدورهم، برأيه، التمتع بنعيم ديمقراطية المادة الثالثة من الدستور المتعلقة بحق أتباع الأديان السماوية ممارسة شعائرهم، وتنظيم حياتهم، وفقاً لمعتقداتهم، ناسياً أن هذه المادة تضرب نظام المواطنة الحديث، وتعيد نظام الملة العثماني الفضيحة، وأن اتهام عبد الناصر، خلافاً لحقائق التاريخ، بطرد اليهود المصريين، هو، وإن قصد التقرب من قادة الولايات المتحدة، وبالتالي «إسرائيل»، إلا أنه يصب الحب، بسذاجة، في طاحونة المطلب الصهيوني بتعويض اليهود العرب الذين تم جلبهم بالقوة والمؤامرات الصهيونية إلى فلسطين، بغرض تحويلهم إلى مستوطنين لأرضها، وقتلة لشعبها. وهذا ما حصده العريان بالفعل، حيث بدأت عملية الابتزاز، بادعاء جهات يهودية صهيونية أمريكية أن خسارة اليهود المصريين «المطرودين على يد عبدالناصر» تزيد على 35 مليار دولار أمريكي.
- عن «الخليج» الإماراتية
{{ article.visit_count }}
في تناقض خطاب «إخوان» مصر تجاه «إسرائيل» وراعيها، الولايات المتحدة ما يدعو إلى حيرة لا يفك ألغازها سوى تمركز هذا الخطاب، بطوريه، على الوصول إلى السلطة، والاستحواذ عليها، وإقصاء المنافسين الداخليين عنها، فمعاداة «الإخوان»، (المعارضين)، لليهود كيهود، وراعيهم، الولايات المتحدة، ككافر، رامت «شيطنة» النظام المصري السابق، بغرض الحلول محله، وليس تغييره. وبالمثل، فإن دعوة «الإخوان»، (الحكام)، إلى «السلام» مع «إسرائيل» العدوانية التوسعية ذاتها، إنما تستهدف الاتكاء على راعيها الأمريكي إياه للحفاظ على السلطة، والتفرد بها، في مواجهة المنافس الداخلي الجديد الذي كان حتى الأمس القريب حليف «الإخوان» في الدعوة إلى «الشعب يريد إسقاط النظام»، ليس بوصفه مستبداً فاسداً، فحسب، لكن بوصفه، تابعاً وخاضعاً للأجنبي، أيضاً.
على أية حال، ربما فات قيادة «إخوان» مصر أن لعبة انتهازية «الغاية تبرر الوسيلة»، عموماً، وفي التعامل مع «إسرائيل»، وراعيها الأمريكي، تحديداً، لا تنطوي على فائدة صافية لمن يعارضها، (اللعبة)، وطنياً وقومياً، فقط، بل، وتقتضي، (وهنا الأهم)، دفْع أثمان لا حدود لها لمن استدرجهم إليها، أيضاً. فعلى المستوى الداخلي، قادت لعبة «الإخوان» هذه، (سريعاً)، إلى تراجع شعبيتهم وضرب مصداقيتهم، وإلى توحيد صفوف مناوئيهم السياسيين في جبهة واحدة، وإلى تنامي الوعي الشعبي بمخاطر سلطتهم على الاستقلال الوطني، وإلى ما ترتب على ذلك كله من استقطابات وانقسامات وطنية حادة، مكلفة، آخذة بالتوسع والتعمق، وتنذر بطول مشوار استقرار مصر، وتشعب مسار ثورتها، والتواءات طريقها، وجسامة تكاليف بلوغ أهدافها، لا في الحرية والديمقراطية والعدالة، فحسب، بل، وفي الاستقلال الوطني، أيضاً.
أما على المستوى الخارجي، غير المنفصل عن تعقيدات المستوى الداخلي، فقد تكشف لـ «الإخوان»، قبل غيرهم، وربما بصورة أسرع مما تخيلوا، أن الدعم الغربي لتوليهم السلطة، لم يكن سوى فاتحة لمقتضيات تبعية سلطتهم الكاملة للولايات المتحدة، سياسياً واقتصادياً، وخضوعها التام لشروط أمن ربيبتها، وحليفها الاستراتيجي الثابت في المنطقة، «إسرائيل». والشواهد على ذلك كثيرة، لكن، لعل من شأن التذكير بالشاهدين الأكثر دلالة، وإثارة للجدل، داخل مصر وخارجها، أن يساعد على تلمس ضخامة ما تريده الولايات المتحدة من «الإخوان»، ثمناً لدعمها لهم، سياسياً واقتصادياً، ولغضها النظر عن تفردهم بسلطة ما بعد انتفاضة 25 يناير. وهذان الشاهدان هما:
أولاً: الرسالة الطافحة بمشاعر الحب والود التي وجهها الرئيس المصري، مرسي، إلى الرئيس «الإسرائيلي»، بيريز الذي أمر، (على عكس ما أراد مُرْسلها)، بنشرها، وأعرب عن بالغ ترحيبه، وعظيم تفاجئه، بها، وشديد اندهاشه من دفئها. لكن رسالة الرئيس المصري هذه، عدا تصريحاته الكثيرة عن الرغبة في «السلام» مع «إسرائيل»، وفي الحفاظ على الاتفاقات الموقعة معها، والالتزام بها، لم تشفع له، لا عند قادة «إسرائيل»، ولا عند قادة راعيها، الولايات المتحدة، حيث قاموا بنبش سجله كقائد في جماعة «الإخوان»، واستخرجوا له تصريحات مسجلة بالصوت والصورة، كان أطلقها في العام 2010 يدعو فيها إلى «إرضاع الأطفال كراهية اليهود»، «أحفاد القردة والخنازير». هنا، ورغم أن قادة «إسرائيل» وأمريكا كانوا، (بلا ريب)، على علم قديم بهذه التصريحات، وبتصريحات أخرى مشابهة لقيادات «إخوانية»، فإنهم، وعلى عادتهم في ممارسة سياسة الابتزاز والإخضاع، أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وقاموا بشن حملة إعلامية منظمة، تتهم الرئيس المصري بـ «اللاسامية»، مطالبين إياه، على لسان الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، ثم على لسان وزارة الخارجية، بتقديم اعتذار رسمي ومعلن عن تلك التصريحات، ما اضطر الناطق باسم الرئاسة المصرية إلى القول: «لقد تم اجتزاء هذه التصريحات وإخراجها من السياق الذي قيلت فيه». ولعل من السذاجة بمكان الاعتقاد أن هذا التوضيح الذي يشبه الاعتذار سيضع حداً للابتزاز الذي يمارسه قاده «إسرائيل»، بدعم أمريكي ضد الرئيس المصري، وبالتالي ضد مصر.
ثانياً: في معرض الدفاع عن الدستور المصري الجديد المفروض، وبسبب عداء «الإخوان» الأيديولوجي المتأصل للتجربة الناصرية، لم يتورع عصام العريان عن اتهام عبد الناصر بطرد اليهود المصريين، داعياً إياهم إلى العودة إلى وطنهم مصر، حيث أصبح بمقدورهم، برأيه، التمتع بنعيم ديمقراطية المادة الثالثة من الدستور المتعلقة بحق أتباع الأديان السماوية ممارسة شعائرهم، وتنظيم حياتهم، وفقاً لمعتقداتهم، ناسياً أن هذه المادة تضرب نظام المواطنة الحديث، وتعيد نظام الملة العثماني الفضيحة، وأن اتهام عبد الناصر، خلافاً لحقائق التاريخ، بطرد اليهود المصريين، هو، وإن قصد التقرب من قادة الولايات المتحدة، وبالتالي «إسرائيل»، إلا أنه يصب الحب، بسذاجة، في طاحونة المطلب الصهيوني بتعويض اليهود العرب الذين تم جلبهم بالقوة والمؤامرات الصهيونية إلى فلسطين، بغرض تحويلهم إلى مستوطنين لأرضها، وقتلة لشعبها. وهذا ما حصده العريان بالفعل، حيث بدأت عملية الابتزاز، بادعاء جهات يهودية صهيونية أمريكية أن خسارة اليهود المصريين «المطرودين على يد عبدالناصر» تزيد على 35 مليار دولار أمريكي.
- عن «الخليج» الإماراتية