لننحي جانباً المسميات والمصطلحات والشعارات التي ترفع “كمطالب” سيلوح بها في جولة الحوار المقبلة، أو تلك التي تلوح لنا بها دول غربية لتكون ضمن دعوى الحوار “الجاد” أو الحوار ذي “المغزى”، كي يفرض على المجتمع البحريني شكلاً أو نمطاً محدداً هو واحد ضمن عدة أشكال للنظم السياسية الديمقراطية.
انسوا كلمات مثل “الإرادة الشعبية” أو “حكم الشعب” أو “النظم الديمقراطية” أو غيرها من المسميات، وانظروا إلى ترجمة تلك الآلية التي يطالبون بها حين تترجم على أرض الواقع فقط.
لدينا جماعة ثيوقراطية لا تستطيع أن تخرج عن حكم الولي الفقيه أو مجلسه العلمائي تتسمى بحزب سياسي، فلا أمانة عامة ولا شورى ولا أي عضو يستطيع أن يخالف الفقيه فيها.
المرأة عند هذه الجماعة ـ وأنا هنا أتكلم عن حراك ميداني واقعي لا تنظير- مجرد أداة وورقة ولا تستطيع أن تتنفس خارج السرب، فلا قانون للأسرة مسموح، ولا ترشيح لانتخابات نيابية مسموح، ولا يحق لها أن تلجأ لأي مؤسسة تحميها من تسلط القضاء الشرعي، أو حتى تحميها من العنف الممارس ضدها وإن كانت مؤسسة مدنية فقد طردت واحدة من هذه المؤسسات من القرية حين حاربها المجلس العلمائي حرباً ضروساً.
أمين عام هذه الجماعة بدأ حياته السياسية برمي المارة الأجانب بالحجارة، ويضم ائتلافهم جماعات مارست العنف في الثمانينات والتسعينات ولديهم ارتباط وثيق بمؤسسات إيرانية وكثير من أعضاء الوفاق صرح بأنهم خدم للرئيس الإيراني أحمدي نجاد.
كثير من أعضائه هم خريجو الحوزات الدينية في قم، وهم جماعة لديها ارتباط إقليمي بذات المجموعة الممتدة من العراق إلى لبنان إلى الكويت إلى المنطقة الشرقية إلى اليمن، حراكهم المشترك الإعلامي والحقوقي والسياسي غير مخفي.
مرجعياتها الدينية السياسية كلها خارج البحرين خامنئي أو سيستاني أو فضل الله أو مدرسي، وطلبات الفتاوى تمتد من الإرث والخمس إلى المشاركة أو المقاطعة في الانتخابات.
باختصار نحن نتعامل مع جماعة راديكالية يحكمها فرد ديكتاتوري هو ضد المرأة والحريات والتعددية، وله فتاوى عنف ويضطهد كل من هو غير ولائي ويقسم المجتمع ليزيدي وحسيني، ولا يوجد بهذه المجموعة عضو واحد لا يؤمن بولاية الفقيه حتى وإن كان شيعياً، ناهيك عن استحالة أن تضم هذه المجموعة سني أو مسيحي أو يهودي بحريني، نحن إذاً لا نتعامل مع “قوى سياسية” أو “حزب سياسي” حتى نستخدم إلى جانبها مصطلحات “الإرادة الشعبية” أو “حكم الشعب”، ولا يحق لها أن تتكلم باسم أي أغلبية إلا جماعتها فقط، ومن يضغط ويطالب بحوار “جاد” عليه أن يضع في اعتباره هذه الحقائق التي بات يعرفها أصغر طفل في البحرين.
لسنا ضد تطوير النظام السياسي وانتقال السلطات للإرادة الشعبية وتقييد الاختصاصات الملكية، إنما لابد أن تتحرر هذه الإرادة الشعبية أولاً حتى تتمكن من استخدام أدواتها، وهذه تحتاج لمنظومة من الأدوات وتهيئة البيئة لهذه النقلة.
ففي ظل أخطاء ارتكبها النظام السياسي عام 2002 حين صرح لحزب سياسي طائفي بامتياز من أخمص قدميه إلى قمة رأسه، وحين تلاه السماح بتأسيس أحزاب طائفية أخرى على الجانب الآخر، خنقت الإرادة الشعبية، ثم حين عجزت السلطات التنفيذية والقضائية عن إنفاذ القانون ومنع استغلال المنابر الدينية لأغراض سياسية تم وأد “الإرادة الشعبية” تماماً، وسيقت الأصوات الانتخابية بالحافلات في فصلين تشريعيين محملين بمفاتيح الجنة، فوصل نواب للأمة أحدهم يقول الناظر لعيسى قاسم كالناظر لوجه علي بن أبي طالب ابن عم الرسول، وآخر سني وصل للمقعد النيابي لأن صوته جميل وهو يقرأ القرآن في رمضان، ونائب آخر يقول لعيسى قاسم «أتينا إليك زاحفين»!! كانت “الجحافل” الصوتية تقاد انقياداً تحت سمع وبصر الحكم والسلطة التنفيذية، في حين وقفت الغالبية الصامتة من المجتمع المدني عاجزة عن لملمة شتاتها خلال السنوات العشر الماضية ترى مصيرها تقرره عمامة ولحية، فعن أي إرادة شعبية نتحدث نضحك على من؟!.
المجتمع المدني حصل على فرصة مع بوادر المشروع الإصلاحي، إنما كانت تحتاج لوقت حتى تنضج لكنها مع الأسف وئدت هي الأخرى، فحين جاء الفصل الأخير لانتخابات 2010 نجح السنة بكسر الطوق الثيوقراطي السني، وعلى الضفة الأخرى هدد الطوق الوفاقي في عقر داره تهديداً حقيقياً كاد أن يطيح به لولا أن نزع عيسى قاسم من فراش مرضه وتم تقديمه في الخيام الانتخابية داعماً للكتلة الإيمانية، وكان ممكناً لو ترك للتجربة أن تنضج على نار هادئة لتمكن المجتمع المدني من تنظيم نفسه وينخرط في أحزاب سياسية بحرينية تكون وليدة المشروع الإصلاحي خالية من نزاعات وصراعات معركة الجمل.
إنما جاءتنا الطامة الكبرى 2011 حين انقاد الكبار للصغار ورمتنا أمريكا مع دول الربيع العربي في سلة واحدة دون تمحيص، وخلطت كل الأوراق وأعادتنا عشر سنوات للوراء بدعوى دعم الديمقراطية وتمكين الأقليات.
بالله عليكم على من نضحك اليوم حين نتحدث عن حوار جاد الآن أو حوار ذي مغزى، ويراد لنا أن نرهن رقابنا كمجتمع مدني إلى عمامة فقيه من خلال طرح آلية تنقل السلطة من مشاركة شعبية بين الملك وبين المجتمع، إلى أن تكون في يد جماعة ترتهن إلى الفقيه ارتهان الخروف لقائده.
إعادة توزيع الدوائر، حكومة ائتلافية، إلغاء الشورى كلها مسميات ديمقراطية مغرية إنما ترجمتها واقعياً ما هي سوى آليات لزيادة سيطرة فقيه معمم على الإرادة الشعبية.
وبدلاً من أن يساعدنا الغرب الديمقراطي لتطوير أدواتنا كمجتمع مدني في طور التشكيل، لم تتح له سوى عشر سنوات فقط كي ينمو ويتطور سياسياً، ويتمكن من أدواته السياسية، أتى بضغطه وبجهله وبعبثه ليفرض علينا قوى ثيوقراطية تقضي على كل مكاسبنا كمجتمع مدني منفتح اجتماعياً واقتصادياً.
بدلاً من تشجيع البحرين على خطواتها السياسية غير المسبوقة من حريات أحزاب وحريات نقابية ومدنية واقتصادية وجعلها نموذجاً مشجعاً لبقية دول الجوار كي تحذو حذوها، نسف الغرب الصورة وشوهها وجعل الدول المجاورة تتراجع تخوفاً من مصير كمصير البحرين.
بعد أن كانت البحرين نموذجاً جعل منها دولة تملك استحقاق توقيع الاتفاقية التجارية الحرة، تحولت البحرين خلال أشهر معدودة إلى دولة مارقة تفرض عليها عقوبات!!.
هذه الازدواجية وانقلاب المعايير جعل المجتمع البحريني لا يثق بتلك الجماعة ولا يثق بأي طرف يدعمها.
الآن حين نأتي للحوار الجاد وذي المغزى والذي دعيت له كل الأطراف، علينا أن نضع في اعتبارنا أن أي صيغة تهدف لتمكين أي طرف من الأطراف وأي إخلال بالمعادلة السياسية في الوقت الحاضر، وقبل أن يقيد المنبر الديني فلن يقود إلى “الإرادة الشعبية” أبداً، بل سيقيد تلك الإرادة ويجعل البحرين المنفتحة المستنيرة تخضع لعمامة فقيه هو عضو في مجمع آل البيت نائباً عن خامنئي، ويفتح الباب إلى صراع طائفي يهدد أمن واستقرار المنطقة بأسرها ويهدد مصالح العالم بأسره.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}