بناء على ما سبق في الجزأين الأول والثاني من هذه المقالات، فإن على دول الخليج العربية أن تدرك خمس حقائق: الأولى: أن لديها قوة اقتصادية ومالية ولديها قوة بشرية لا تقل عن 25 مليون نسمة من المواطنين، ونصف ذلك من العمالة الوافدة وهذا يمثل ركيزة مهمة للقوة الخليجية الصاعدة.الثانية: أن العمق الاستراتيجي العربي ليس عمقاً فارغاً، لكن لديه قوة بدوره تكمل وتعزز دول مجلس التعاون ومن الضروري تعميق التلاحم بين الطرفين فالمصالح مشتركة والمخاطر واحدة والمنافع يجب أن تكون متبادلة.الثالثة: أن عالم اليوم هو عالم المعرفة والتكنولوجيا، وأن المعرفة النووية ليست سهلة بالنسبة لكل دولة على حدة، وإنما العمل الخليجي الجماعي هو القوة الحقيقية التي يمكن أن تدفع الخليج العربي إلى مضمار التقدم، إن العالم يسير نحو التشابك الدولي بما في ذلك فقط بين التكتلات الكبرى في العالم ولا ينبغي أن تفكر دول الخليج العربي بمنطق الدولة الوطنية التي تعيش في عزلة أو بمنطق الفكر القبلي الذي عرفته الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحتى القرن العشرين.الرابعة: أن عالم القرن العشرين هو عالم السموات المفتوحة والأقمار الصناعية والفضاء الإلكتروني، ولا يمكن لدول الخليج العربية أن تعيش في غير هذا العصر أو تعيش بمنطقة القرن التاسع عشر، إن المرأة لابد أن تنال حقوقها وتشارك في الحياة السياسية، كذلك كافة فئات المجتمع، وإذا كان الجميع استفاد بدرجات معينة من الثروة النفطية، فإن الجميع يطالب بدور سياسي، وخاصة قوى الشباب والمرأة والأقليات، بل والعمالة الوافدة التي تشارك بقوة في عملية التنمية في المنطقة، وعلى دول الخليج العربية أن تطور فكرها ليس بالمنطق الثوري الانقلابي، ولكن بالمنطق التطوري التدريجي، وعلى جميع قوى المجتمع أن تدرك أن التغيير الثوري المفاجئ أحدث في مختلف دول العالم كوارث، وهذا ما حدث في الصين في عهد ماوتسى تونج، وفي فرنسا بعد الثورة الفرنسية، وفي العراق ومصر وسوريا وليبيا والجزائر والسودان وغيرها، في حين أن الدول الملكية الوراثية في منطقة الخليج العربي خاصة أثبتت أنها أكثر تجاوباً مع المطالب الشعبية، وعليها أن تزيد من جرعة التجاوب هذا بالتدريج دون توقف، إذ إن عالم القرن الحادي والعشرين أكثر سرعة في الدوران والتغير، ولكنه في نفس الوقت يجب أن يكون هذا المتغير في إطار من الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى التي تجنب المنطقة الهزات الضخمة التي تؤدي إلى عدم الاستقرار والصراعات الداخلية وما يترتب عليها من آثار مدمرة لا يمكن التبوُّء بنتائجها.الخامسة: أن دول الخليج العربية لا يمكنها أن تتطور وتحقق أمنها واستقرارها دون تعاون دولي مع القوى الدولية العالمية والإقليمية، وعلى تلك القوى أن تعمل في إطار منطق التعاون، ومبادئه المعروفة دولياً وليس في إطار السيطرة والهيمنة استناداً لتاريخ قديم، وأفكار بالية، وأساطير من السياسة والمفاهيم الدينية التقليدية، فعالم القرن الحادي والعشرين هو عالم التساند الدولي والتكاتف الدولي، وها هي الصين وأمريكا وروسيا واليابان يتعاونون في المنتدى الاقتصادي لآسيا الباسيفيك رغم الاختلاف بين هذه الدول العملاقة ويحتضنون أيضاً الدول الصغيرة والمتوسطة وتحرص الصين كقوة كبرى على مواجهة مساعي الدول الأخرى للهيمنة وعلى ترديد شعارها المفضل أنها تسعى للتعاون وليس للتشاحن، تسعى للسلام وليس للحرب. وعلى كل قوة كبيرة دولياً أو إقليمياً أن تؤكد لجيرانها في الخليج العربي أن ما تقوله حقيقة من خلال سلوكها الفعلي وليس من خلال تناقض أفعالها مع أقوالها وإطلاق التهديدات التي تثير الشكوك وتغذي الخلافات وتعمق الأحقاد. وإنه من اللافت للانتباه موقف مراكز الأبحاث والدراسات الغربية وبخاصة الأمريكية صاحبة النظرية المسماة الفوضى الخلاقة وهي فوضى هدامة ولكن للأسف ماتزال مراكز الأبحاث الأمريكية تتابع هذه المهمة بنشاط تحسد عليه ونشير هنا إلى ثلاثة مظاهر لذلك: الأول: كتابات جين شارب العديدة والموجودة على المواقع الإلكترونية والمترجمة إلى مختلف لغات العالم حول ما يسمى بالانتقال من “الديكتاتورية للديمقراطية” وكيف تقوم بثورة وكيفية أحداث التمرد والعصيان المدني وغير ذلك.الثاني: دور المراكز الأمريكية الخاصة بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وتمويلها لمنظمات غير حكومية عربية وخليجية، ولعل هذه القصة أصبحت معروفة في البحرين للخلاف الشديد الذي وقع بين المعهد الوطني الديمقراطي الأمريكي ومعهد التنمية السياسية البحريني، وأدى ذلك إلى طرد المعهد الأول لخروجه عن أية قواعد متعارف عليها في التعامل بين الدول. أما النموذج الثاني فهو قيام الولايات المتحدة بصفة رسمية في تزويد منظمات حقوق الإنسان وغيرها من المنظمات الأهلية في مصر بأكثر من 150 مليون دولار خلال عام 2011 بدعوى مساعدتها للعمل على نشر الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان وخصم ذلك من المعونة الرسمية لمصر الدولة، ورفض الولايات المتحدة أية رقابة حكومية مصرية على الصرف من هذا المبلغ بدعوى استقلالية تلك المنظمات الأهلية، والسؤال هل تقبل أمريكا أن تعمل منظمة أهلية عربية على أراضيها دون رقابة؟ وهل تقبل أمريكا أن تتدخل دولة عربية في نشاط أية منظمة لها صلة بالعرب أو المسلمين على الأراضي الأمريكية؟ إن هذا ما يطلق عليه المعاير المزدوجة.الثالث: وهو الأكثر غرابة؛ تلك الدراسة المعنونة “هل يمكن أن يحدث انقلاب عسكري في دول الخليج”؟ دليل إرشادي للقيام بانقلاب وتقدم الدراسة ما تسميه دليلاً للإرشاد والعجيب أن الذي أعد تلك الدراسة والدليل هو مركز يحمل اسم “مركز الدراسات الأمريكية العربية” ومقره واشنطن، وأطلق التقرير والدراسة في احتفال رسمي يوم 25 سبتمبر 2012، وكأن الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي لدول الخليج العربية تحرض جيوشها على القيام بانقلابات عسكرية. هل هذه هي الديمقراطية الأمريكية أن تثير القلاقل والانقلابات العسكرية؟ ثم تطالب بالديمقراطية والحكم المدني ربما كان ذلك هو النموذج الديمقراطي الأمريكي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.. لا ندري!!. لقد أشرت إلى هذه المظاهر الثلاثة لكي أخلص منها إلى حقيقة رئيسة وهي أن صعود القوة الناعمة الخليجية لا يثير القلق لدى بعض دول الشرق الأوسط فحسب؛ إنما أيضاً لدى الحليف الاستراتيجي ولهذا تحرص على تحطيم هذه القوة مهما كانت ناعمة، والسؤال هل تدرك دول مجلس التعاون المخاطر والتحديات المحيطة بها؟ وهل أعدت العدة للاستفادة من الآفاق الكبيرة المتاحة لديها؟ لقد قال لي أستاذ هندي مخضرم ومتخصص في الشؤون الشرق الأوسط هو البروفسور محمد شفيع إجواني الرئيس الأسبق لجامعة في نيودلهي عبارة منذ أوائل الثمانينيات عندما كنت أعمل في سفارة مصر في الهند آنذاك “إن العرب أتيحت لهم فرصتان ولكنهم أضاعوها؛ الأولى ظهور النبي العربي محمد رسول الإسلام ثم طفرة أسعار النفط بعد حرب أكتوبر 1973، والآن أمام العرب الفرصة الثالثة لو أضاعوها فلن تقوم لهم قائمة”، لم يذكر ما هي الفرصة الثالثة وربما لم تكن معروفة آنذاك ولكنني أستطيع أن أقول إن هذه الفرصة الثالثة هي ثورة الاتصالات والمعرفة والتكنولوجيا والديمقراطية وحقوق الإنسان ولاشك أن غداً لناظره قريب.