القارئ الحصيف بات يعرف جيداً أن الإيحاء السلبي؛ نوع من الإيحاء الذاتي يشعر الإنسان عبر الاقتناع به أن ما يراه صحيحاً، وأن ما يلمسه حقيقياً، وما يحسه هو الواقع ولا شيء غير ذلك. وبالتالي بعد أن يصل إلى هذه المعلومة يبدأ بإيصالها إلى الآخرين، الذين، كأنهم في حالة من التنويم، يقتنعون كل الاقتناع بما يراه ويشعره صاحبهم هذا. للتدليل على صحة الإيحاء وقوته وتأثيره على من حوله، سأنقل لكم تجربة خاصة مررت بها في الأسبوع الماضي، ومن الممكن اعتبارها نموذجاً من نماذج الإيحاء السلبي، والتي من الممكن أن نراها في كل المواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ليس في بلادنا فحسب إنما في كل العالم.في الأسبوع الماضي شاركت في حفلة غرفة تجارة وصناعة البحرين بتكريم بعض الموظفين والعاملين فيها، وذلك من خلال إلقاء قصيدة كتبتها في رثاء الصديق الراحل عيسى خالد الغرير، ومن عادتي في مساء كل يوم الذهاب إلى مكتبتي (مكتبة نون) في توبلي لإعداد المكان وتهيئته للأصدقاء والأصحاب والزوار، وذلك بتشغيل الأنوار والمكيفات وتحضير الشاي، قمت بكل ذلك بمحبة كاملة.عندما رجعت، كان الاستياء واضحاً على وجه الأصدقاء في المكتبة، وقالوا إن الشاي بارد، وبعضهم قام بتحضيره للآخرين بصورة سيئة، لذلك لم يشربوه، وأبقوا الكاسات بشايها السيئ، هذا الاستياء العام جعلني أتفق معهم على أساس أن الشاي قد يكون برد بفعل الوقت.وكان الوقت متأخراً على تحضير دلة شاي أخرى، وقبل خروجي من المكتبة ذهبت لأغسل الدلة، تحسست الشاي فوجدته حاراً ويكاد أن يحرق إصبعي، فهمت الأمر سريعاً..الذي حدث أن أحد الأصدقاء جاء مبكراً إلى المكتبة، وجد على الطاولة دلتين؛ الدلة التي حضّرت فيها الشاي الجديد والدلة الأخرى التي لم أستطع أن أغسلها بسبب الاستعجال فظلت على الطاولة. حينما أراد أن يشرب الشاي اتجه مباشرة إلى الدلة القديمة وصب الشاي فوجده بارداً، فقام وحضر له الشاي على الطريق المصرية (الكشري)؛ شغل الإبريق الكهربائي وصب الماء الحار على الشاي في الكأس، وقال للقادمين بعده إلى المكتبة أن الشاي بارد، وبالفعل تبرع مشكوراً بتحضير الشاي السريع، الكشري، وبقت دلة الشاي الحارة مكانها لم يحركها أحد، لأن الإيحاء كان قوياً، بحيث إنهم لم يتمكنوا من رؤية الدلة أمامهم.ما أريد أن أصل إليه هو أن الإيحاء الذي أعطاه لنفسه أولاً، دون أن يتثبت من وجود الدلة الأخرى، قاده إلى القناعة التامة بأن الشاي الذي حضرته لهم صار بارداً، وأوحى لكل من جاء بعده ببرودة هذا الشاي، وحين أتيت إلى المكتبة بعد العاشرة اقتنعت معهم بهذا الأمر.إن الذي لا يرى الواقع ككل، إلا من زاوية ضيقة أو من جهة واحدة كما فعل صاحبنا، واقتنع بأن الصورة الصغيرة هي الصورة الكلية، قناعته هذه تقود إلى قناعة الآخرين عن طريق الإيحاء، خصوصاً تلك العقول الجاهزة للتصديق عبر الإعلام بشتى أشكاله، والذي هو أحد أخطر أنواع الإيحاء المتطورة في عالمنا اليوم.