لا نستطيع أن نمحو من ذاكرة الإنترنت صنيع المعارضة البحرينية المُسوّد للوجوه، لارتباط نشاطهم المُسيء باسم الشريفة “البحرين”. لا يمكننا أن نتوسل التاريخ المسطر في ذرات الكون وتشهد عليه السموات والأرض قبل كتب المؤرخين، أن ينزع وصمة عار لوثت إشراقة السجل البحريني على مدى الأزمان، خصوصاً في حضرة تقنية العصر “الإنترنت”، الذي يمثل تمظهر الحرية الرعناء في ثوبٍ متعدد الوسائط.
لقد روجت أزمة البحرين لقنوات التواصل الاجتماعي الإلكتروني بشكل لافت وملحوظ، وتصاعد الاهتمام بمتابعة الأخبار والتعرف على وجهات النظر باعتبارها قنوات الحرية المطلقة، خلافاً للاعتقاد المحاول ترويجه بكون الصحافة بوق الدولة، والتلفزيون جهازاً للعلاقات العامة والدعاية، ما يخفض من درجة مصداقية الوسيلتين الأخيريين -باعتقادهم- مقارنةً بالأولى. مع تغاضي الجمهور عن أهمية المرجعيات الثقافية والفكرية، وآليات صناعة وبث الرسائل الإعلامية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، انطلاقاً من العبارة القائلة “من يملك الأوعية يملك الوعي” إسقاطاً على “من يملك الوسيلة يملك الرسالة”. الأمر المؤكد لمقدرة قنوات التواصل الاجتماعي على توجيه الرأي العام حسب الإيديولوجية التي تديرها.
لقد أفرزت مواقع التواصل الاجتماعي نشازاً في تشكيل النسيج الاجتماعي والثقافي في البحرين، ورسمت له عوالمَ افتراضية صوّرت الطموح بتغيير خارق في كافة تفاصيل المملكة مع وهم الوصول إلى جمهورية أفلاطون أو مدينة الفارابي الفاضلة، ومن يدري؟ ربما لشطر آخر من الجمهورية الفارسية، ما أسهم في اندفاع السواد الأعظم من المتعلمين إلى تلك العوالم في محاولة تعويضية عن أمل مفقود أو يكاد في الواقع.
لقد دعمت مواقع التواصل الاجتماعي الأزمات السياسية حتى حولتها إلى أزمات دينية كبرى، الأمر الذي تنبّه له قادة الثورة المزعومة، وطرحه فيما قبل (صامويل هنتجتون) في كتابه (صِدام الحضارات) حول محورية الدين في العالم الحديث، وقوته المركزية في تحريك البشر وتحشيدهم. استنهاضاً لصحوة سياسية وديمقراطية تمخضت في بعض الدول العربية عن سقوط ديكتاتوريات -يحتار المتابع للمشهد في إصلاحها لمصير الدول والشعوب أو إفسادها- وفي دول أخرى، محاولات انقلابية شعواء لإسقاط أنظمة حكم داعية للديمقراطية والنهوض ما استطاعت.
في هذا السياق كان لمواقع التواصل الاجتماعي دور رائد تزامن مع تناحرات الشرق الأوسط إثر ثورات الربيع العربي، تمثل هذا الدور في ظهور النزعات السياسية المتأبطة للمذاهب الدينية كبرنامج عمل وطني؛ حتى ظهرت النتائج المروعة بتمزيق النسيج الوطني البحريني في ظل العداء الصارخ الذي عززته دوغمائية كل الأطراف، والتي تعصّب بمقتضاها كل حزب لأفكاره دون قبول النقاش فيها، باعتبارها مسلمات لا تستوجب الإتيان بأي دليل، يصحبها تشدد ديني وجمود فكري بارز.
مشكلة ما جرى في البحرين، توظيف مواقع التواصل الاجتماعي الإلكتروني لأدلجة الشعب، بل وتفتيته، نظراً لتعدد تلك الأيديولوجيات؛ ما أحدث نزيف في الوعي العام والعقل الجمعي، حتى امتد لنزيف آخر للأخلاق والمبادئ والقيم تمخضت عنه أبشع الممارسات على جسد “الشريفة البحرين”.
وإننا إذ نواجه التحديات في المملكة؛ اقتصادية وقانونية وحقوقية وسياسية، أيضاً نواجه مشكلات الانفلات الثقافي في ظل التكنولوجيا المُشَرَّعَة الأبواب لكل مُغرِّب ومُخرِّب؛ ليدلي برأيه في القضايا المصيرية للبلاد، حتى تحولت الفوضى الافتراضية إلى ميدان الواقع بصورة أكثر بشاعة ومرارة. ولعل هذا ما تنبه إليه (فرانك كيلش) عندما وصف الإنترنت بالأداة الاتصالية وسط حالة من الخلط العام والفوضى.
أزمة البحرين أسهم فيها عدد من الأيدي الخفية التي أميط عنها اللثام في فترات مختلفة، وأغلبها خارجية، كما أسهم فيها الخطاب الديني التحريضي وأبرز أعلامه عيسى قاسم وعلي سلمان، الأمر الذي نبارك إزاءه توجه وزير العدل والشؤون الإسلامية في استخدام القوة الجبرية لمنع المحرضين من الخطابة على المنابر، في خطوة حاسمة لترشيد الخطاب الديني. ولكن الأزمة لم تنشأ من أرض البحرين الطاهرة بقدر ما نشأت من رحم مواقع التواصل الاجتماعي، التي استُخدمت بحدها المسنون لتدمير الذات الوطنية، ومن ثم الكيان الوطني الأكبر.
من هنا تتكشف سلطة الأنترنت الاتصالية، والتي ستظل شاهدة أبد الدهر على صراعات وتناحرات وأحداث ووقائع حدثت على أرض البحرين، التي اغتصبت ولم تجد حتى يومنا هذا من يأخذ بثأرها، فوالد الحبيبة مكبل بالقيود، وإخوانها صبورون حتى التخاذل.