بعد أن سلطنا الأضواء على القصور الذاتي الذي تعاني منه المعارضة العربية، ننتقل منه كي نقف على ذلك الذي تعيشه السلطات العربية اليوم، وهو مسألة غير محصورة في الدوائر ذاتها، بل يتجاوزها إلى أخرى غيرها أيضاً، ويمكن إيجاز كل ذلك في النقاط التالية:1. التآكل الاجتماعي؛ وهذا يشمل القوى المجتمعية برمتها بما فيها تلك المنخرطة في صفوف الجهات المعارضة لتلك السلطة. يبدأ فعل ذلك التناحر في اللحظة التي تصل فيها برامج السلطة القائمة إلى حالة العجز عن إشباع متطلبات القوى الاجتماعية التي تخاطبها، وعلى وجه الخصوص تلك الفئة الشابة منها، سواء في السن أو في السلوكيات الاجتماعية أوالتطلعات السياسية أو الطموحات الاقتصادية. في تلك اللحظة بالذات، تبدأ تلك القوى مسيرة الابتعاد عن طريق التفاعل الإيجابي مع النظام السياسي القائم، قبل أن تدخل في مرحلة مناهضته. يتنامى هذا السلوك في هذا الاتجاه السلبي حتى يصل إلى درجة القطيعة ومن بعدها العداء، الأمر الذي يفقد السلطة حينها قوة العجلة التي تمدها بالقدرة على الحركة، فتدخل في نفق القصور الذاتي الذي يزرع نطفة التآكل الاجتماعي عندما تبدأ السلطة في الاعتماد على فئة مجتمعية محدودة لا تملك مقومات النمو، وتتسرب لها جرثومة عدم الرضا من الفئات الخارجية فتنكفئ على نفسها نحو الداخل بدلاً من النمو إلى الخارج. تضيق الدائرة الاجتماعية رويداً رويداً حتى تكتشف السلطة، لكن بعد فوات الأوان، أنها هي الأخرى تعاني من الجرثومة ذاتها فتضطر إلى الخضوع لقوانين القصور الذاتي الذي يقودها إلى نقطة الشلل.2. التناحر السياسي الفاعل في اتجاهين متتابعين، لكنهما متكاملين من حيث التأثير السلبي الذي يمارسانه. يبدأ الأول خطواته الأولى خارج إطار مؤسسات السلطة عندما ينجح في بناء جدران عالية سميكة بين السلطة ومواطنيها، وهذا يحدث فقط عندما تفشل مشروعات السلطة السياسية في كسب ولاء أولئك المواطنين، وعلى وجه الخصوص القوى السياسية المعبرة عنهم. يتطور الأمر كي يصل إلى درجة القطيعة التي تتنامى بدورها فتتحول إلى حالة من العداء المتبادل الذي يرغم الطرفين على الانكفاء نحو الداخل، وعدم استماع أي منهما إلى الآخر، بل ربما يصر على نفيه. عند هذه النقطة تتحول برامج السلطة للتنمية السياسية إلى سجين الأوراق التي دونت عليها. رويداً رويداً تتسلل تلك الجرثومة إلى صفوف السلطة ذاتها وتنشر بين أفرادها، الذي لا يلبثون أن تدب الخلافات في صفوفهم هي الأخرى، وتفقد الدولة أهم عناصر قوتها وهو تماسكها. وتتحول إلى أرخبيل من الإدارات المتناثرة التي لا يجمعها أكثر من الأسماء المدونة على أبواب المكاتب التي يشغلها موظفوها. محصلة ذلك الطبيعية هي تضافر العوامل السلبية إلى ممارسات من شأنها استهلاك قوى السلطة وإنهاكها حتى تصاب بالشلل الكامل الشبيه بذلك القصور الذاتي للأجسام عندما تصل إلى حالة السكون.3. التراجع الاقتصادي الناجم عن تهاوي جسور التفاعل الإيجابي، والثقة المطلوب توفرهما من أجل إنجاح أي من برامج السلطة الاقتصادية أو التنموية. فمن الطبيعي أن يتغلغل الإحباط الذي نحذر منه إلى قطاع الأعمال الذي من الصعب حمايته من الجرثومة التي نتحدث عنها. حينها ستواجه السلطة عزف قطاع الأعمال، كأحد اهم فئات المجتمع عن تلك المشروعات، وعدم تفاعله الإيجابي معها. النهاية المتوقعة هنا هي سير مشاريع التنمية الاقتصادية في طريق واحد فقط لن تجد في نهايته ذلك الشريك الذي تبحث عنه كي يحول تلك الخطط إلى مشروعات حية تمارس دورها الإيجابي في تطوير البلد من جانب، وتبني جسور الثقة والتواصل المطلوبين بين السلطة وقطاع الأعمال من جانب آخر.يتطور الفتور بشكل بطيء لكن بالغ الأثر نظراً لما يحظى به قطاع الأعمال من ثقل في المجتمع المعني إلى ما يشبه القطيعة التي تزرع جرثومة القصور الذاتي في الجانب الاقتصادي الذي يعتريه الفتور، حينها قبل أن يصل إلى حالة الشلل التي نحذر منها. أسوأ ما في الأمر هنا عندما تتطور السلبية كي تنتقل من حالة العزوف إلى حالة العداء، وتصل إلى حالة القطيعة التامة التي تحول قطاع الأعمال إلى جثة هامدة غير منتجة تترك خانة الإنتاج كي تقع ضحية سهلة في مربع الاستهلاك.الحديث عن حالة القصور الذاتي السياسي والتحذير منها لا يعني إطلاقاً أن من يعاني منها هو ضحية حالة مستعصية لا يمكن الشفاء منها، رغم صعوبة ذلك وطول طريقها. لكن الخروج منها يتطلب التهيؤ المشترك من قبل السلطة والقوى المعارضة لها من خلال الخطوات التالية: 1. شعور الطرفين الجاد والصادق بمسؤوليتهما المشتركة عن ذلك القصور السياسي الذاتي الذي يدب في جسد المجتمع ويعيق حركته قبل أن يوقفها. فليس في مصلحة أحد أن تستمر تلك الحالة السلبية، ولا يمكن الخروج منها بالاكتفاء بتبرئة الذات واتهام الآخر. فطالما كانت مسؤولية تفشي الداء مشتركة فمن غير المنطقي أن تكون وصفة الدواء أحادية. وأولى الخطوات على هذه الطريق هي وقف توجيه الاتهامات المتبادلة والبدء عوضاً عن ذلك بتشمير السواعد والعمل سوية من أجل المصلحة العامة المتجردة من الأنانية الذاتية لدى أي منهما. 2. بناء الثقة المتبادلة؛ فبعد توفر القناعة بالمسؤولية المشتركة بالخطأ تبدأ مسيرة تعزيز علاقات النوايا الحسنة بين الطرفين ونزع فتيل الشكوك المتبادلة التي كانت قائمة بينهما. تحقيق ذلك ينبغي أن لا يقف عن حدود القناعات النظرية فحسب؛ بل لا بد له إن كان يراد له أن يكون مجدياً التحول إلى ممارسات عملية يطبق برامجها الطرفان على حد سواء. مثل هذه القناعات الممزوجة بالممارسات يمكنها أن تذيب جبال الثلج التي زرعت بذور القصور السياسي العربي أولاً، وتقيم مكانها أعمدة الثقة المطلوبة ثانيا وليس أخيراً.3. الاستعانة بأطراف محلية محايدة؛ هذه الأطراف المحلية التي لا يعدم تواجدها كونها مصرة على الوقوف على خطوط الحياد الإيجابي إن جاز لنا الوصف، لديها الاستعداد وربما الرغبة أن تغادر مواقعها الحيادية، فما لو رأت ومن ثم لمست توفر الرغبة الصادقة لدى الطرفين التي يجسدها سلوكهما العملي المستمر وغير الموسمي. ولكي تكون مساهمات هذه القوى المحايدة مجدية وفعالة لا بد من إشراكها عمليا وبموافقة الطرفين في إطفاء حرائق عدم ثقة، وتزويدها بالأدوات التي تحتاجها لإنجاح مهامها. وفوق كل ذلك اقتناع الطرفين بحاجتهما المشتركة لها. 4. تحاشي اللجوء إلى قوى أجنبية خارجية مهما بدت محايدة. فتدخل القوى الخارجية يعني إضافة مصلحتها إلى معادلة بناء الثقة، وهو أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً. فمن الأفضل، خصوصاً في المراحل المبكرة من العمل من أجل بناء الثقة أن يكون الأمر محصوراً في القوى المحلية وحدها فقط.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90