في حال كالتي مرت فيها البحرين ليس منا إلا من أخذ موقفاً من آخرين، حتى الأقربين منا، ومواقف الناس تختلف في ظرف كهذا وفقاً لأمور كثيرة، فيقف بعض مع هذا الطرف ويقف البعض الآخر مع ذاك الطرف، وبعض ثالث يقف في المنطقة المحايدة، وبين المناطق الثلاث الرئيسة يقف آخرون لم يتمكنوا من تحديد مواقفهم أو أن سلبيتهم طغت حتى باتوا غير مكترثين. لكن ما يجمع بين الأبعاض كلها هو حب الوطن الذي لولاه لما عاشت البحرين ما عاشته من أحوال، فالقصة وما فيها هي أن كل بعض ينظر إلى الأمور من زاوية معينة، وينطلق من رؤى وأفكار وقناعات، ويمتلك اعتقادات تجعله يفهم حب الوطن بشكل مغاير عن حب الآخرين له.
أولئك الذين خرجوا في مظاهرات سلمية لم يكونوا ليخرجوا لولا أنهم محبون للوطن ويسعون للأفضل، وأولئك الذين مارسوا سلوكيات عنوانها التطرف، وأولئك الذين اتخذوا من هؤلاء وهؤلاء موقفاً واعتبروا خروجهم أياً كانت أسبابه مضراً للوطن هم أيضاً محبون للوطن، الفارق هو أن هؤلاء ينظرون إلى الأمور بمنظار مختلف عن المنظار الذي ينظر من خلاله أولئك، لكن الطرفين يمثل الوطن بالنسبة إليهما قيمة بل قيمة كبرى، لذا يجمعهما حب الوطن، فالوطن للجميع وإن اختلفوا. وبالتأكيد فإن من الطبيعي أن يعتبر هؤلاء أولئك سالبين حقاً من حقوق الوطن أو سالبين الوطن كله، وأن يعتبر أولئك هؤلاء في الخانة التي تم تصنيفهم فيها.
اليوم وبسبب ما حدث صارت في قلب كل واحد من أبناء هذا الوطن «حرّة» على بعض من تلك الأبعاض، وهذا أمر طبيعي تمت ترجمته بتصنيف الناس بعضهم البعض إلى صنفين أساسين؛ خائن وبلطجي. فهؤلاء اعتبروا أولئك خونة وأولئك اعتبروا هؤلاء بلطجية، ولولا أن في قلب كل واحد من الطرفين «حرّة» على الآخر لما قبل أن يصفه أحد بهذا الوصف أو ذاك.
صحيح أن ما مرت به البحرين يصعب نسيانه لأنه كان بالفعل قاسياً حتى كاد أن يقسم البلد إلى قسمين، بل أن بيننا من صار يرى أن الأمور وصلت إلى حيث لا يمكن لها العودة إلى ما كانت عليه. كل هذا صحيح، لكن هذا لا يعني أن باب الولوج إلى حيث إسدال الستار أغلق وضاع المفتاح، فنحن في النهاية شعب واحد وإن اختلفت معتقداتنا ورؤانا وأفكارنا وقناعاتنا ومواقفنا وقدراتنا في عالم السياسة، وليس بيننا من لا يحب هذا الوطن وإن قدّر البعض لسبب أو لآخر عكس ذلك.
ما سبق يعني أنه رغم كل الجراح والآلام ورغم كل «الحرّة» التي في النفوس لا يزال هناك متسع لاستيعاب بعضنا البعض واللقاء والوصول إلى الوضعية التي يمكن أن ننطلق منها نحو الخروج من هذا المأزق الصعب الذي صرنا فيه نتيجة قراءات غير صحيحة للواقع.
من هنا جاءت فكرة مركز الدراسات لجمع ممثلي الجمعيات السياسية والمنظمات الحقوقية في مكان واحد ليستمع بعضهم إلى بعض، وليضعوا الأساسات التي يمكن الاعتماد عليها للانتقال إلى المرحلة التالية ثم التي بعدها حتى الخروج إلى حيث الوطن الذي ينتظر الجميع ليعوض الفترة السابقة ويواصل مسيرة البناء والمساهمة في الفعل الحضاري الذي عرفه العالم به.
الجميع تضرر وتأثر وفي قلب كل واحد منا «حرّة»، لكن استمرار الوضع على ما هو عليه يزيد من جراحنا ويوسعها ويقلل فرص الوصول إلى حل يرضي الجميع. لننطلق من مقولة «ليس بيننا من لا يحب هذا الوطن» فهي مفتاح مهم لنجاح اللقاءات الممهدة للحوار.. ونجاح الحوار نفسه.