أمس الأول صدر عن جلالة الملك حفظه الله مرسوم رقم (82) لسنة 2012 بإصدار اللائحة التنفيذية للقانون رقم (32) لسنة 2010 بشأن الكشف عن الذمة المالية، هذا القانون الذي استجلب سجالاً نيابياً قبل عامين وأسئلة موجهة لوزير المالية بشأن عدم تطبيقه ومراوحته مكانه رغم صدور المرسوم.
الآن حسمت الأمور بصدور المرسوم المعني بإصدار اللائحة التنفيذية، ما يعني أن القانون لابد وأن يبدأ العمل به وتطبيقه على الفور مستهدفاً الفئات التي حددها من وزراء ومسؤولين ونواب وغيرهم.
وجهنا هنا قبل شهور وتحت عنوان «ذمم مالية توسع بلد» عدة تساؤلات معنية بقانون الذمة المالية، رابطين القانون بتقارير الرقابة المالية، ومن ضمن جملة التساؤلات ما يلي:
كيف يتحول شخص بسيط لم يرث عن عائلته -بل هو موظف في هذا القطاع أو ذاك- إلى مليونير، أو صاحب «بزنس» في زمن قياسي خرافي؟! بل كيف يكون في رصيد مسؤول في الدولة -راتبه معروف ومحدد بحسب جداول الرواتب- أرقام مخيفة تغنيه عن راتبه التقاعدي وتؤمن مستقبله ومستقبل أحفاد أحفاده لقرون قادمة؟! بل كيف نفاجأ بأن مسؤولاً حكومياً لا يحق له امتلاك «بزنس» خاص باسمه لديه أصلاً «بزنس» شاسع وواسع وفروع ممتدة ؟! عموماً نطرح «التساؤل الجميل»: من أين لك هذا؟!
عندما أنشئ ديوان الرقابة المالية قبل سنوات استبشرنا خيراً، قلنا بأن الفساد والاستهتار بالمال العام سيتوقف، لكن النتيجة كانت مخالفة للتوقعات، والتقرير عام عن عام يكبر ويتضخم دون أن يحاسب أحد فيه من كبار المسؤولين.
الآن مع تفعيل قانون الذمة المالية ما الذي يمكننا أن نتوقعه؟! هل سيتم الكشف عمن كانت ومازالت «ذمته واسعة، تسع بلداً»؟! هل هناك إجراءات محددة بحق من يكتشف أن «ذمته» قادته لحصد الأموال بطريقة غير مشروعة يجرمها القانون؟!
وجود مثل هذه القوانين أمر مهم ومطلوب في أي مجتمع ديمقراطي حر شعاراته تتركز على المساواة والعدالة ومحاربة الفساد، كذلك وجود جهات مستقلة تعمل على رصد الفساد وتحديد الأخطاء مثل ديوان الرقابة المالية مسألة لا تقل أهمية، لكن بيت القصيد كله يكمن في الإجراءات التي تتخذ بناء على هذه القوانين وعمل الجهات المعنية بالرقابة والرصد.
كل الخوف بأن يتم التعامل مع قانون كشف الذمة المالية مثلما تم التعامل مع تقارير ديوان الرقابة المالية، بحيث نظل نسمع الشعارات الرائعة في مضامينها لكننا لا نجد تطبيقاً لها على أرض الواقع.
أغرب ما قرأته من ردود أفعال سريعة كالعادة على أية مراسيم أو قوانين، هي تلك التي تصدر عن نواب البرلمان، هؤلاء النواب الذين يتحملون وزر تشويه صورة الدور الرقابي والمحاسبي الذي تمتلكه المؤسسة التشريعية بشأن تقارير ديوان الرقابة المالية، إذ هم في الوقت الذي فيه تجاهلوا ثمانية أو تسعة تقارير للرقابة يخرجون اليوم ليقولوا تعليقاً على المرسوم الملكي بإصدار اللائحة التنفيذية لقانون الرقابة المالية ما يلي: إفصاح الموظفين عن ذمم المالية يجفف منابع الفساد!
«حلفوا والله»! يعني كشف الذمة المالية «الحين» سيجفف منابع الفساد وليست محاسبتكم للمفسدين والمستهترين بالمال العام بناء على الرصيد الضخم الموجود في تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية؟!
مثل هذه التصريحات «التطريزية» نسمعها دائماً من بعض النواب، وهي تصريحات تدينهم بعكس ما يظنون أنها ترفعهم قدراً لدى النظام أو لدى الناس. الشعب ليس بمغفل، إذ بدلاً من «تفهيم» الناس لشيء مفهوم أصلاً، يفترض بهم أن يعملوا لتطبيق المبادئ التي تقدمها هذه الأمور.
يقول بعض النواب إن صدور القانون «خطوة تاريخية»، والله نعرف ذلك يا سادة، مثلما كانت إعادة الحياة البرلمانية «خطوة تاريخية»، وإنشاء ديوان الرقابة المالية «خطوة تاريخية»، وغيرها من «خطوات تاريخية» تمت بفضل رؤية وإرادة ملكنا العزيز حفظه الله، لكن ما ننتظره منكم أنتم كممثلين للشعب أيضاً «خطوات تاريخية» في اتجاه محاربة الفساد وإقالة المفسدين، وبهذا الشأن تأتت لكم الفرص طوال 10 أعوام لإقالة المقصرين والمفسدين فهل نجحتم في التسجيل لأنفسكم القيام بـ»خطوات تاريخية» مشابهة؟!
المبادئ رائعة في مضامينها، لكن يبقى التطبيق، وأكرر هنا الخشية من تكرار نفس السيناريو مع تقارير ديوان الرقابة المالية، رغم أنه بشأن قانون الذمة المالية يتوجب تشكيل هيئة مستقلة لفحص إقرارات الذمة المالية وتتبع المجلس الأعلى للقضاء وتكون برئاسة قاضي محكمة التمييز، الأمر الذي قد يدخلنا في جدلية قدرة الدولة على مراقبة مسؤولي الدولة، المهم أن النواب لا علاقة لهم بالقانون لأنهم هم معنيون أصلاً بكشف ذممهم بموجبه، يكفيهم حمل وزر فشل محاربة الفساد وإقالة المفسدين رغم وجود تقارير الرقابة المالية التي تقدم لهم كل شيء على طبق من ذهب دون أي جهد إضافي.
يبقى أخيراً أن نجد إجابة على سؤال معني بعملية تطبيق قانون الذمة المالية، السؤال الأول الذي سيتبادر لذهن أي شخص: ماذا لو خلصت عملية فحص إقرارات الذمة المالية لوجود حالات تبين وجود متنفذين ذممهم المالية «ما شاء الله» وثرواتهم كانت نتيجة استغلال مناصب أو حالات فساد. السؤال هنا كيف ستكون إجراءات المحاسبة، وإلى أي مدى يمكن أن تصل في استرداد المال العام وتطبيق القانون؟!