تجربة البحرين مع مؤسسات المجتمع المدني الدولية تعد تجربة تستحق الدراسة، رغم أنها ليست التجربة الوحيدة دولياً التي تواجه فيها دولة تدخلات في شؤونها الداخلية باسم حقوق الإنسان والديمقراطية، بل هناك تجارب أخرى بعضها فشل في تغيير الأنظمة السياسية، والبعض الآخر تمكن من تحقيق ذلك.
ولذلك مازلنا نكرر أن النظام الدولي يعاني خللاً هيكلياً يتعلق بأدوار مؤسسات المجتمع المدني الدولية، أتاح لهذه المؤسسات الانتقال من أدوار متخصصة إلى أدوار تنافس فيها أدوار الدول وكياناتها، وهي أدوار خطيرة إذا استمرت من شأنها تهديد الأمن والسلم الدوليين.
مؤسسات المجتمع المدني إقليمية أو دولية كانت ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في انتهاء مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول رغم أنه مبدأ أصيل من مبادئ العلاقات الدولية التي نظمتها الأمم المتحدة منذ تأسيسها في العام 1945.
عندما بدأت المرحلة الجديدة من النظام الدولي بعد حرب تحرير الكويت في العام 1991 كانت التحليلات والدراسات تشير إلى احتمالية تراجع مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول بسبب ما أطلق مبكراً عليه بـ(العولمة). ومع ذلك لم تبرز تحركات دولية لوضع ضوابط وقيود تنظم أدوار مؤسسات المجتمع المدني الدولية، وسبب ذلك رغبة القوة الأعظم والقوى الكبرى بالنظام الدولي استغلال هذه المؤسسات وتحويلها لأداة من أدوات السياسة الخارجية لها، وهذا ما حدث بالفعل.
كثير من حكومات الدول تقوم بتمويل أنشطة مؤسسات المجتمع المدني وخاصة تلك المتخصصة في مجالات دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والهدف من هذا التمويل هو ضمان تحقيق أهداف السياسة الخارجية المختلفة، سيّما وأن لهذه المنظمات أدواراً رئيسة في ممارسة الضغط السياسي والتأثير في السمعة الدولية.
لنتحدث سريعاً عن تجربة البحرين مع المنظمات الدولية وتحديداً الحقوقية منها، وهي تجربة بدأت منذ عقود طويلة، ولكنها صارت أكثر وضوحاً منذ تسعينيات القرن العشرين عندما شهدت البلاد حركة احتجاج سياسي خلال السنوات 1994 ـ 1999. طوال هذه الفترة كانت المنظمات الدولية تصدر بشكل دوري مستمر تقارير وبيانات صحافية تتحدث فيها عن «انتهاكات حكومة البحرين لحقوق الإنسان، وحرمان الشعب من حقوقه السياسية والديمقراطية.. إلخ». ولكن التأثير في ذلك الوقت كان محدوداً للغاية، بل إن معظم البحرينيين لا يتذكرون جيداً مثل هذه التقارير التي مازالت موثقة في العديد من المكتبات وحتى مكتبات الدول الخليجية. سبب محدودية التأثير. أن وسائل الإعلام كان تأثيرها محدوداً، فعلى سبيل المثال لم يكن الإنترنت الذي ظهر آنذاك منتشراً، بل كانت المنظمات تعتمد على أجهزة الفاكس في انتشار بياناتها وتقاريرها. فضلاً عن سيطرة الدولة على وسائل الإعلام وكانت لديها قدرات هائلة في التحكم باتجاهات الرأي العام البحريني. هل استمر الوضع كذلك بعد الألفية الجديدة وخاصة مع اقتراب الأزمة التاريخية التي ضربت البحرين مطلع العام 2011؟
طبعاً كلا، فمنذ بداية المشروع الإصلاحي عام 2001 كانت المنظمات الحقوقية الدولية مستمرة في إصدار بياناتها وتقاريرها الناقدة للأوضاع في البلاد دون إنصاف أو اكتراث أو موضوعية ببدء تحول الدولة نحو الملكية الدستورية التي نعيشها اليوم.
ولكن ما ساعد على تحول المنظمات الحقوقية الدولية إلى مؤسسات تلعب أدواراً تتجاوز أدوار الدول. شبكات التواصل الاجتماعي التي أتاحت المجال للمؤسسات والأفراد على السواء التفاعل، وتغيير نمط الاتصال من النمط الأحادي الذي كان سائداً في التسعينات الماضية (من المنظمات إلى الجمهور في البحرين) إلى نمط ثنائي مزدوج (من المنظمات إلى الجمهور في البحرين، ومن الجمهور في البحرين إلى المنظمات).
بالتالي كانت النتيجة أن المنظمات الحقوقية الدولية صار لها نفوذ هائل في البحرين على مستوى الجمهور وعلى مستوى السياسات الحكومية، وأصبحت تؤثر كثيراً في المشهد السياسي المحلي لدرجة أن بعضاً من مؤسسات المجتمع المدني البحرينية صارت تتسابق على إقامة علاقات وتحالفات مع المنظمات الحقوقية الدولية. هذه هي خلاصة التجربة البحرينية مع مؤسسات المجتمع المدني الدولية، واللافت فيها أنها استطاعت تدريجياً إنهاء مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة باسم دعم الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ليس موضع نقاش هنا كيفية تعامل الدولة البحرينية مع هذه المنظمات، ولكن الأهم هو تزايد الحاجة لضبط وتنظيم أدوار مؤسسات المجتمع المدني الدولية التي صارت تؤثر كثيراً في المصالح الاستراتيجية للدولة، وكذلك علاقاتها مع الدول الأخرى، وهي بالفعل مشكلة هيكلية في النظام الدولي ليس وارداً معالجتها الآن.