الامتحان الجديد الذي يضعه التحدي الصهيوني في طريق العرب في صراعهم الأزلي الوجودي مع إسرائيل هو قدرتهم على التخلص من العناصر السلبية التي تزرع مكامن الضعف في صفوفهم في أية مواجهة مع الكيان العبري حتى في النطاق السياسي فقط، دع عنك عندما تحتدم الأمور وتصل إلى الصدام العسكري المباشر، كالذي نشهده اليوم في غزة، فبينما يتنادى أفراد المجتمع اليهودي في داخل إسرائيل وخارجها كي يتراصوا في جبهة واحدة، نجد في المقابل تمزق نسيج التوحد العربي داخل البلاد العربية وبين مجتمعات مهاجريها ممن يقطنون الخارج، ويختلفون حتى في أشكال مواجهة ذلك العدو. العدو يوحد صفوفه حتى عندما يتوجس الخوف من أي اختلال، مهما كان طفيفاً، في موازين القوى في غير صالحه، والعرب يتشرذمون وهم يقدمون الضحايا كما نشاهد اليوم في غزة، وفي ذلك منافاة لقيم لعقل ومنطق التاريخ.
أول عناصر هذا الامتحان الجديد يكمن في قدرة العرب، في نطاق الصراع العربي - الصهيوني فقط على تقليص درجات انفراج زوايا خلافاتهم الداخلية الثانوية ولو لفترات قصيرة، بالمقياس التاريخي للنزاعات الدولية، والوقوف صفاً واحداً متناسقاً، وليس بالضرورة موحداً عندما يصل مستوى الصدام إلى مثل ذلك القائم اليوم في غزة.
ومن ضمن بنود قائمة متطلبات الوصول إلى ذلك الحد الأدنى من التنسيق والتعاون العربيين، هناك إضافة إلى البعد السياسي الذي تناولناه في الحلقة الأولى، الجانب الاقتصادي. ولسنا بحاجة إلى إغراق القارئ في لجة بحور الأرقام المتلاطمة أمواجها جراء التخبط، ولا تتويهه بين كثبان صحاري الاقتصاد العربية الجدباء جراء شح مياه البرامج الاقتصادية السليمة.
فكل اقتصاد عربي على حدة، بما في ذلك دول الوفرة المالية النفطية، يعاني من ثغرتين أساسيتين؛ أولاهما ارتهانه للخارج، وينعكس ذلك بوضوح في بيانات التجارة الخارجية أو إسرافه المبعثر لرؤوس الأموال، وهدرها في مشروعات هامشية، وأحياناً وهمية تخاطب الإعلام العالمي عوضاً عن تلبية احتياجات المواطن الداخلية. يعزز من سلبيات الاثنتين معاً ذلك الفساد الذي ينخر جسد مؤسسات الدولة ويهشم مقومات حسن إدارتها وتطوير أدائها.
نلفت إلى أن مقاييس الحكم المعمول بها هنا لاتزال أسيرة الاقتصاد التقليدي، فوضع اقتصاد كل دولة عربية على حدة يزداد سوءاً، فيما لو بني الحكم على مفاهيم الاقتصادات الحديثة كتلك التي بدأت تلج طرق الاقتصاد المعرفي، أو المرتكزة على «التشبيكي» من فئاته والتي تحتاج إلى موارد خام مختلفة ومهارات بشرية متطورة، وكلتاهما غير متوفرتين في الأسواق العربية القائمة. تجدر الإشارة إلى أن ما دأب العرب على التباهي به على الصعيد الاقتصادي، منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، والمستمد قوته من وفرة السيولة النقدية المتأتية من الارتفاع في أسعار النفط والغاز، لم يعد معياراً أساسياً للحكم على متانة اقتصاد بلد ما بعد ثورة الاتصالات والمعلومات التي عصفت بأركان الاقتصادات القديمة، وأقامت أخرى بديلة خاصة بها باتت هي التي يؤخذ بها عند الحكم أو المقارنة.
ذلك على الصعيد القطري والحالة العربية أكثر سوءاً عندما يصل الأمر إلى وضع الاقتصاد القومي تحت المجهر، فإذا ما تعمد المتابع لمسيرة «السوق العربية» المتعثرة، غض الطرف عن ذلك التضارب الواضح الناجم عن التناقض الصارخ بين القوانين والأنظمة القطرية ضد بعضها بعضاً، سيكتشف أن محاولة التقريب بينها، غالباً ما تصطدم، بعقبة تمسك قطر بقوانينه الخاصة، ورفضه التزحزح قيد أنملة عنها، ضارباً عرض الحائط بكل قرارات الجامعة العربية التي يعود القديم منها إلى الخمسينات من القرن الماضي، وجديدها لم يجف بعد حبر الوثائق التي تكتظ بها أروقتها.
ونظرة سريعة إلى أرقام التجارة البينية العربية تكفي للحكم على تردي أوضاع التبادل التجاري بين الأقطار العربية. ومن المعروف أن حجم التجارة البينية بين كتلة سياسية تضم دولاً مستقلة، هو أحد المعايير التي يقاس بها تقدم دول تلك الكتلة في اتجاه إيجابي على طريق التنسيق، أو سلبي يكشف عن دورانها المعاكس في اتجاه الخلف، إمعاناً في التمزيق، كما نشاهد في الاقتصادات العربية. حتى البنى التحتية الضرورية للتقدم على طريق اقتصاد عربي متناسق غير متضارب، مازالت تحتاج إلى الكثير من الجهد، إن أريد لها المساهمة في بناء ذلك الاقتصاد العربي الذي نتحدث عنه، القادر على مساعدة العرب على اجتياز امتحان مواجهة التحدي الصهيوني.
ومن السياسة ومعها الاقتصاد، ننتقل إلى المجتمع العربي الذي تمزقه ثقوب الصراعات الطائفية بين أتباع الأديان السماوية، ويمتلئ بثقوب النزاعات المذهبية في نطاق الدين الواحد، وتقض مضاجعه الخلافات المناطقية والقطرية التي تتكامل مع عناصر الإضعاف الأولى كي تقصم ظهر مرتكزات المواطنة الصحيحة المستمدة من الولاء الواعي، القائم على المصالح المشتركة بشكل إيجابي بناء، تعززه الثقة المتبادلة، بين المواطن والوطن، بكل ارتباطات الأول، ومكونات الثاني.
وعلى أرضية الاقتصاد والسياسة والمجتمع، نبني تقويمنا للجاهزية العسكرية العربية، عندما تجد نفسها أمام امتحان صعب تضعه في طريقها بشكل دوري متكرر، تطورات الصراع العربي – الإسرائيلي، والمسارات المختلفة التي يسلكها، وليس ما عرفته غزة منذ العام 2008، سوى أحد الشواهد الحية عليه.
تزداد الصورة قتامة عندما نستعرض قدرات المؤسسة العسكرية العربية لكل دولة على حدة، أو كلها مجتمعة، ونحاول القيام بمقارنة بتلك التي بحوزة العدو الصهيوني. تكفي الحروب المتكررة التي خاضتها الجيوش العربية في حروب 1956، و1967، و1973، و1982 في لبنان، وقائمة أخرى من المعارك الحدودية بين دولة عربية وإسرائيل، للدلالة على تفوق الآلة العسكرية العبرية على نظيرتها العربية، القطرية منفردة، أو القومية مجتمعة.
تجدر الإشارة هنا أنه عند المقارنة للحكم على الجاهزية، الاكتفاء بالحصر العددي لكل الأجهزة والمعدات، أو التوقف عند عدد القوات البشري، فالجيوش الحديثة أصبحت تسيرها منظومات حربية شاملة تتكامل فيها كفاءة الأجهزة والمعدات، مع مهارات الأفراد والقيادات، سوية مع البرمجيات كي تأتي في محصلتها النهائية قوة ضاربة معدة لإنجاز مهمات تكتيكية قصيرة المدى، ومخططات استراتيجية بعيدة الأفق. وهو ما تكرر أمام أعيننا في سلوك المؤسسة العسكرية الصهيونية، منذ أن كانت عصابات صغيرة متناثرة، سبقت تأسيس الدولة العبرية.
من هنا ينبغي أن توقف الدولة العربية سياسات الاستعراضات العسكرية التي بتنا نشهدها في المناسبات الوطنية، الهادفة إرضاء غرور الحكام، وإشاعة الثقة المزورة في نفوس المواطنين، لكنها لا تملك مقومات الصمود والدفاع، دع عنك بدء الهجوم ونيل الانتصار، في أية حرب خاضتها، ويحتمل أن تخوضها الدول العربية، منفردة كانت أم مجتمعة، ضد تل أبيب.
أول عناصر هذا الامتحان الجديد يكمن في قدرة العرب، في نطاق الصراع العربي - الصهيوني فقط على تقليص درجات انفراج زوايا خلافاتهم الداخلية الثانوية ولو لفترات قصيرة، بالمقياس التاريخي للنزاعات الدولية، والوقوف صفاً واحداً متناسقاً، وليس بالضرورة موحداً عندما يصل مستوى الصدام إلى مثل ذلك القائم اليوم في غزة.
ومن ضمن بنود قائمة متطلبات الوصول إلى ذلك الحد الأدنى من التنسيق والتعاون العربيين، هناك إضافة إلى البعد السياسي الذي تناولناه في الحلقة الأولى، الجانب الاقتصادي. ولسنا بحاجة إلى إغراق القارئ في لجة بحور الأرقام المتلاطمة أمواجها جراء التخبط، ولا تتويهه بين كثبان صحاري الاقتصاد العربية الجدباء جراء شح مياه البرامج الاقتصادية السليمة.
فكل اقتصاد عربي على حدة، بما في ذلك دول الوفرة المالية النفطية، يعاني من ثغرتين أساسيتين؛ أولاهما ارتهانه للخارج، وينعكس ذلك بوضوح في بيانات التجارة الخارجية أو إسرافه المبعثر لرؤوس الأموال، وهدرها في مشروعات هامشية، وأحياناً وهمية تخاطب الإعلام العالمي عوضاً عن تلبية احتياجات المواطن الداخلية. يعزز من سلبيات الاثنتين معاً ذلك الفساد الذي ينخر جسد مؤسسات الدولة ويهشم مقومات حسن إدارتها وتطوير أدائها.
نلفت إلى أن مقاييس الحكم المعمول بها هنا لاتزال أسيرة الاقتصاد التقليدي، فوضع اقتصاد كل دولة عربية على حدة يزداد سوءاً، فيما لو بني الحكم على مفاهيم الاقتصادات الحديثة كتلك التي بدأت تلج طرق الاقتصاد المعرفي، أو المرتكزة على «التشبيكي» من فئاته والتي تحتاج إلى موارد خام مختلفة ومهارات بشرية متطورة، وكلتاهما غير متوفرتين في الأسواق العربية القائمة. تجدر الإشارة إلى أن ما دأب العرب على التباهي به على الصعيد الاقتصادي، منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، والمستمد قوته من وفرة السيولة النقدية المتأتية من الارتفاع في أسعار النفط والغاز، لم يعد معياراً أساسياً للحكم على متانة اقتصاد بلد ما بعد ثورة الاتصالات والمعلومات التي عصفت بأركان الاقتصادات القديمة، وأقامت أخرى بديلة خاصة بها باتت هي التي يؤخذ بها عند الحكم أو المقارنة.
ذلك على الصعيد القطري والحالة العربية أكثر سوءاً عندما يصل الأمر إلى وضع الاقتصاد القومي تحت المجهر، فإذا ما تعمد المتابع لمسيرة «السوق العربية» المتعثرة، غض الطرف عن ذلك التضارب الواضح الناجم عن التناقض الصارخ بين القوانين والأنظمة القطرية ضد بعضها بعضاً، سيكتشف أن محاولة التقريب بينها، غالباً ما تصطدم، بعقبة تمسك قطر بقوانينه الخاصة، ورفضه التزحزح قيد أنملة عنها، ضارباً عرض الحائط بكل قرارات الجامعة العربية التي يعود القديم منها إلى الخمسينات من القرن الماضي، وجديدها لم يجف بعد حبر الوثائق التي تكتظ بها أروقتها.
ونظرة سريعة إلى أرقام التجارة البينية العربية تكفي للحكم على تردي أوضاع التبادل التجاري بين الأقطار العربية. ومن المعروف أن حجم التجارة البينية بين كتلة سياسية تضم دولاً مستقلة، هو أحد المعايير التي يقاس بها تقدم دول تلك الكتلة في اتجاه إيجابي على طريق التنسيق، أو سلبي يكشف عن دورانها المعاكس في اتجاه الخلف، إمعاناً في التمزيق، كما نشاهد في الاقتصادات العربية. حتى البنى التحتية الضرورية للتقدم على طريق اقتصاد عربي متناسق غير متضارب، مازالت تحتاج إلى الكثير من الجهد، إن أريد لها المساهمة في بناء ذلك الاقتصاد العربي الذي نتحدث عنه، القادر على مساعدة العرب على اجتياز امتحان مواجهة التحدي الصهيوني.
ومن السياسة ومعها الاقتصاد، ننتقل إلى المجتمع العربي الذي تمزقه ثقوب الصراعات الطائفية بين أتباع الأديان السماوية، ويمتلئ بثقوب النزاعات المذهبية في نطاق الدين الواحد، وتقض مضاجعه الخلافات المناطقية والقطرية التي تتكامل مع عناصر الإضعاف الأولى كي تقصم ظهر مرتكزات المواطنة الصحيحة المستمدة من الولاء الواعي، القائم على المصالح المشتركة بشكل إيجابي بناء، تعززه الثقة المتبادلة، بين المواطن والوطن، بكل ارتباطات الأول، ومكونات الثاني.
وعلى أرضية الاقتصاد والسياسة والمجتمع، نبني تقويمنا للجاهزية العسكرية العربية، عندما تجد نفسها أمام امتحان صعب تضعه في طريقها بشكل دوري متكرر، تطورات الصراع العربي – الإسرائيلي، والمسارات المختلفة التي يسلكها، وليس ما عرفته غزة منذ العام 2008، سوى أحد الشواهد الحية عليه.
تزداد الصورة قتامة عندما نستعرض قدرات المؤسسة العسكرية العربية لكل دولة على حدة، أو كلها مجتمعة، ونحاول القيام بمقارنة بتلك التي بحوزة العدو الصهيوني. تكفي الحروب المتكررة التي خاضتها الجيوش العربية في حروب 1956، و1967، و1973، و1982 في لبنان، وقائمة أخرى من المعارك الحدودية بين دولة عربية وإسرائيل، للدلالة على تفوق الآلة العسكرية العبرية على نظيرتها العربية، القطرية منفردة، أو القومية مجتمعة.
تجدر الإشارة هنا أنه عند المقارنة للحكم على الجاهزية، الاكتفاء بالحصر العددي لكل الأجهزة والمعدات، أو التوقف عند عدد القوات البشري، فالجيوش الحديثة أصبحت تسيرها منظومات حربية شاملة تتكامل فيها كفاءة الأجهزة والمعدات، مع مهارات الأفراد والقيادات، سوية مع البرمجيات كي تأتي في محصلتها النهائية قوة ضاربة معدة لإنجاز مهمات تكتيكية قصيرة المدى، ومخططات استراتيجية بعيدة الأفق. وهو ما تكرر أمام أعيننا في سلوك المؤسسة العسكرية الصهيونية، منذ أن كانت عصابات صغيرة متناثرة، سبقت تأسيس الدولة العبرية.
من هنا ينبغي أن توقف الدولة العربية سياسات الاستعراضات العسكرية التي بتنا نشهدها في المناسبات الوطنية، الهادفة إرضاء غرور الحكام، وإشاعة الثقة المزورة في نفوس المواطنين، لكنها لا تملك مقومات الصمود والدفاع، دع عنك بدء الهجوم ونيل الانتصار، في أية حرب خاضتها، ويحتمل أن تخوضها الدول العربية، منفردة كانت أم مجتمعة، ضد تل أبيب.