بعد مرور ثلث قرن من الزمن على إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية وتحقيق العديد من الإنجازات ومواجهة الكثير من التحديات يشعر الباحث في القضايا الاستراتيجية الدولية أنه قد آن الأوان للانطلاق نحو مرحلة جديدة مختلفة نوعياً عن تلك التي سادت في ثلث القرن الأول من عمر المجلس. ولعلني أذكر أن أهم إنجازات المجلس تتمثل في ثلاثة:
• الأول: البقاء على قائمة التنظيمات الإقليمية العربية ذات المنحنى التكاملي بعد أن أخفقت العديد من التجارب وواجهت التجربة الباقية الأخرى وهي جامعة الدول العربية هزة عنيفة كادت تعصف بها أكثر من مرة من انفصال مصر وسوريا بعد أن شكلا الجمهورية العربية المتحدة، إلى كارثة الهزيمة المرة في 1948م والأكثر مرارة في 1967م ثم تحدي معاهدة السلام المصري الإسرائيلي، ونقل الجامعة العربية إلى تونس ثم غزو العراق للكويت ،وهو أمر يحدث لأول مرة في التاريخ العربي المعاصر، ثم هزيمة العراق واحتلالها وهكذا.
• الثاني: تحقيق العديد من الإنجازات من التنقل ببطاقة الهوية إلى السوق الخليجية المشتركة إلى السماح بتنقل العمالة وإقامة الصناعات والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي فضلاً عن الإنجازات في مجال الأمن والدفاع المشترك.
• الثالث: الدور الدولي والإقليمي المتصاعد يكفي أن يشير إلى الإنجاز المهم في تسوية المشكلة اليمنية عبر المبادرة الخليجية فضلاً عن أدوار أخرى في ليبيا وسوريا وفي مواجهة القرصنة وفي حفظ السلام في أفغانستان ،أضف لذلك المعونات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين والسوريين وفي الكوارث والزلازل في باكستان وغيرها من الدول.
هذه الإنجازات هي غيض من فيض كما يقول المثل العربي، ولكن الإنجاز الأكبر هو في الصمود المستمر والتماسك القوي، رغم كل التحديات والضغوطات الإقليمية والدولية. وهذا كله ما دفع دول العالم للسعي إلى مجلس التعاون كتنظيم إقليمي لإجراء حوارات استراتيجية معه سواء كان ذلك الاتحاد الروسي أو الاتحاد الأوروبي أو الصين أو الولايات المتحدة أو تركيا وغير ذلك من دول.
إن مجلس التعاون الخليجي أصبح قوة إقليمية بل أصبح هو قاطرة العمل العربي المشترك الذي تراجع وضعف نتيجة الظروف العربية غير المواتية ،ونتيجة تراجع قوة معظم الدول المحورية في العمل العربي المشترك فضلاً عن ضعف القيادات التي تتولى العمل العربي المشترك مقارنة بالقيادات التي تتولى إدارة العمل الخليجي المشترك.
ولكن إنجازات مجلس التعاون لا يجب أن تخفي عن الباحث أو حتى المواطن الخليجي وجود تحديات ضخمة ولقد لفت نظري الرسم الكارتوني الذي نشرته صحيفة أخبار الخليج يوم 12 ديسمبر 2012م من رسومات الفنان البحريني المتميز «عبد الله المحرقي» عندما رسم ما أسماه التآمر المشترك حيث خنجرين يصوبان نحو مجلس التعاون من إيران ومن الولايات المتحدة بالتبادل والتوازي وهذا يعبر بحق عن طبيعة التحدي، وأنا كباحث في الدراسات الاستراتيجية الدولية لا أحب مصطلح التآمر ولكنني أنظر بمنطق بحثي يقوم على أساس أن كل ظاهرة ينبغي أن يتم تحليلها عبر عناصر أربعة هي الفرص والتحديات ونقاط القوة ونقاط الضعف، ووفقاً أيضاً لنظرية أحبها كثيراً منذ بداية دراستي الجامعية بجامعة القاهرة وهي نظرية المؤرخ الإنجليزي المشهور أرنولد توينبي في التحدي والاستجابة فالحياة كلها تحديات أمام الأفراد كما هي أمام الدول وما يميز دولة عن أخرى أو قيادة عن أخرى في أية دولة أو مجتمع هو تقديم الاستجابة المناسبة لكل نوع من أنواع التحديات التي تواجهها . وأضيف لذلك تلك النظرية الرائدة في علم الاجتماع السياسي التي بلورها العالم العربي المسلم عبد الرحمن بن خلدون واسماها نظرة العصبية وفسر من خلالها قيام الدول وسقوطها
ولو طبقنا نظرية التحدي والاستجابة على وضع دول مجلس التعاون نجد أن أمامها العديد من التحديات ، وأقول إن أول هذه التحديات هو تحدي النفط وهو أخطر التحديات ولابد من مواجهته بعمل جاد اقتصادي واجتماعي وثقافي وأمني. ويتمثل أول أبعاد هذا التحدي في نشره لثقافة الريع وما يرتبط به من اتكالية. والبعد الثاني جعل دول الخليج مطمعاً للقوى الطامعة إقليمية ودولية وهذا يستلزم قوة أمنية حقيقية للدفاع عن دول المجلس. والبعد الثالث توفير ثروة غير مسبوقة في تاريخ الأمم والشعوب عبر العصور وضرورة الاستفادة بها في بناء مجتمع يسوده الرخاء للأجيال الحاضرة وفي نفس الوقت بلورة رصيد تراكمي للأجيال القادمة، لأن هذه ثروة ناضبة وليست متجددة. البعد الرابع هو الثقافي الذي جعل دول المجلس أقل تقدماً في المفهوم الشامل لثقافة المجتمعات المعاصرة وهي ثقافة حقوق الإنسان وثقافة بناء نظام سياسي يحقق تراكماً مستمراً ومستداماً نحو مشاركة المواطن في إدارة البلاد وفي ثرواتها. هذه المشاركة ليست كلمة تقال أو شعاراً يرفع وإنما هي ركيزة ثلاثة أمور بالغة الأهمية أولها: بناء مفهوم المواطنة الاقتصادية والسياسية، وثانيها: بناء مفهوم المواطنة الدفاعية والأمنية إذا جاز مثل هذا التعبير، وثالثها: بناء مفهوم المواطنة الذاتية أو الهوية الوطنية الخليجية، لو أمكن تحقيق ذلك فإن هذا هو الركيزة لمواجهة مختلف التحديات إننا إذا استعرنا نظرية ابن خلدون في العصبية و طبقناها على مفهوم المواطنة الحديثة الشاملة يمكننا القول إن المواطنة الشاملة أو الثلاثية الأبعاد هي العصبية الحديثة لأنها أساس القوة وعدم توافرها هو يقود إلى الضعف وهذا يفسر لنا من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي السبب الرئيس لانهيار الاتحاد السوفيتي السابق رغم قوته النوويــة.