يقول ابن القيم رحمه الله: «ملك بني داراً، لم ير الراؤون، ولم يسمع السامعون أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها، ونصب لها طريقاً، وبعث داعياً يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زينت بأنواع الزينة، وألبست أنواع الحلي والحلل، ومر الناس كلهم عليها، وجعل لها أعواناً وخدماً تحت يدها ويد أعوانها زاداً للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق، وقال لها ولأعوانها: من غض طرفه عنك ولم يشتغل بك عني وابتغى منك زاداً يوصله إلي فاخدميه وزوديه، ولا تعوقيه عن سفره إلي، بل أعينيه بكل ما يبلغه في سفره، ومن مد إليك عينيه ورضي بك وآثرك علي، وطلب وصالك فسوميه سوء العذاب وأوليه غاية الهوان واستخدميه واجعليه يركض خلفك ركض الوحوش، ومن يأكل منك فاخدعيه به قليلان ثم استرديه منه واسلبيه إياه كله، وسلطي عليه أتباعك وعبيدك، وكلما بالغ في محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بأمثاله قلى وإهانة وهجراً، حتى تنقطع نفسه عليك حسرات».مالنا تمضي علينا الأيام والسنوات دون أن نعي، وتتصرم الأعمار، ونتلذذ ببهجة الحياة، ونجوب طرقات العمر بحثاً عن أكسير الحياة.. ما لنا لم نعد نلتفت إلى ذلك النسيج المترامي الذي يبني لنا المكانة المرجوة هناك في منازل الخلود الأبدية.. ما لنا نعيش في أرض قاحلة موحشة، تجعدت فيها جباهنا، ووهنت فيها قوانا، ونحن نلهث وراء سراب خادع، وحصاد عقيم، وهياكل فارغة، وحفنة دنانير تضمن لنا العيش الهانئ.. ما لنا نبتسم لأمل خادع، وأشباح من الخيالات الفانية السابحة في خواء نفوسنا.. ما لنا نفتك بأيدينا تلك النفوس البريئة الساحرة النقية الصافية، نصهرها بشموع تضيء بالكاد آثار أقدامنا في رمال ناعمة.. ما لنا نحمل نفوسنا على كف النسيان والضياع نتململ ضجراً من حياة خطبنا ودها ونتجاهل معها مصيرنا الحتمي، ونشوة النفس الزائلة، وآثار ذنوب اقترفناها على قارعة الحياة.. آه يا نفس ويحك..لا نتمنى أبداً ولا يجول بخاطرنا إطلاقاً أن نكون من «خطاب الدنيا» كما أسماها الإمام ابن القيم رحمه الله، بل نطمح بأن ننحت على صخرة العمر بتقاسيمها الرائعة بأن نكون من «خطاب الآخرة». هكذا نعيش ونحن لا نعلم أين المسير.. نستيقظ صباحاً، نمضي إلى ميدان الحياة، ونحن نفتقد نور البصيرة والهداية بأن نكون مستودع الخير الذي يسعى للخير ويحول حياته للخير.. ثم نعود تارة أخرى إلى مراقدنا كجثة هامدة تستعد فيما بعد للنهوض مجدداً للبحث عن لقمة عيشها في يوم جديد.. ألا تلاحظون حياتنا أضحت كمثل مسلسل صامت ممل نهايته مجهولة!! ألا تلاحظون أن نفوسنا «الغافلة» أضحت تطلب الآخرة في مواسم الطاعات في رمضان وعاشوراء وعرفة وفي مواطن الابتلاءات!! يا الله.. غفلة مخيفة، وطاحونة موجعة، وتيهان مؤلم، لم نقصد أن نصنعه بأيدينا، ولم نقصد أن تلطمنا فيها الدنيا بفصولها الساخرة.. بل أرغمتنا الحياة بأن نعيش هكذا.. سرحان قلبي وفكري ونفسي.. نستيقظ منه في لحظات خاطفة.. ثم نعود لنمدد هذا الجسم على سرير دافئ لا نضمن بعده أن نستيقظ لحياة جديدة!!دمعة ساخنة لم تمهلني كثيراً حتى أرتب تلك الأفكار التي أيقنت بأهميتها هذه اللحظة.. لربما بسبب عمر يمضي سريعاً، ومخافة من انقضائه ودنو ساعة الرحيل دون أن أقوى على اقتحام دنيا زائلة، والتودد إلى الآخرة فأكون من خطابها وخطاب الفردوس.. عدت إلى قلمي مرة أخرى أحاول جمع الشتات.. يا الله.. كم أنت رحيم بعبادك.. فرصة بعد فرصة، وأمل بعد آخر، وأبواب مشرعة للتائبين.. تمهل ولا تهمل، كريم مع عبدك، وعفو ورؤوف وحليم.. استيقظت من غفلتي مجدداً، قررت أن أسابق الزمان، وأبصم الخير منذ اللحظة الأولى لقيامي لصلاة الفجر الغالية.. أجدد الإيمان، أزيل الغبار من نفسي المتعبة، ومن على ذلك النبراس المضيء في نفسي والذي ركنته طويلاً على هامش الحياة.. قررت أن أكون من خطاب الآخرة حتى يسخر الله تعالى لي الدنيا في واحة الخير والعطاء من أجل جنة عرضها السموات والأرض.. وكما قال ابن القيم في عدة الصابرين في ذلك المثل المأخوذ من الأثر المروي عن الله عز وجل: (يا دنيا اخدمي من خدمني واستخدمي من خدمك).. قررت أن أكون من عشاق الجنة، أبني خيراً، واستنشق خيراً، وأكتب خيراً، وأعمل خيراً، وأمشي في الخير، وأعيش في خيالات الخير، وحروفي تنطق خيراً.. ألبس رداء الذكر، وأترنم بالآيات البينات، وأبكي على الخطيئات، وألقي برداء الأمل على أكناف كل المحبين، وأطهر قلبي من الضغائن، أقتلع من نفسي أشواك اللهو والعبث في أوقاتي ومن مضيعاته الكثيرة..معذرة.. فأنا وأنت من خطاب الآخرة وخطاب الفردوس الأعلى.. فحياتي كلها لله.. وهدفي أن يرضى الله عني.. هذا ما سأكتبه في ورقة بجانب سريري.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90