إن معظم الخلافات والنزاعات بين الأطراف ذات العلاقة بالأزمة السياسيّة المحليّة، كما أسلفنا، تظهر لا بسبب الخلاف في الرأي بشأن جوهر الأزمة فقط، وإنما بفعل نمط التفكير في الخلاف ذاته، والطرق التي يتوسّل بها كل طرف لإزالته أو التقليل من مترتِّباته، في أحسنِ تقديرٍ.
إن طريقة النظر إلى أيِّ حدثٍ ما تحدِّد إلى حدٍ كبيرٍ أسلوب التعاطي معه، وتبعات هذا الأسلوب، فالطرف الذي يعتقد أن الأحداث السياسية التي عصفت بالبلاد قد جاءت بدعمٍ من جهاتٍ خارجيةٍ تتأبّط شراً بالوطن وأهله، قد يكون على حق إذا استطاع أن يفصح عن ماهية هذه الجهات، وعما تدبِّره لهذا البلد وشعبه، غير أن المسألة لا يمكن ابتذالها أو تبسيطها بهذه الكيفيّة، فالمهم هنا هو معرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه الاستنتاجات «المنطقيّة» المبنيّة على هذا الموقف. فإذا كانت النتيجة النهائية لمثل هذا النمط من التفكير هو تخوين كافة المنتمين لمكوِّنٍ اجتماعيٍ بأسره، وإلصاق أوصاف التبعيّة والولاء للخارج بهم حيثما حلوّا، والتضييق عليهم في أرزاقهم وأعمالهم وحياتهم اليومية، فهذا يعني أننا حملنا الجميع وزر جماعةٍ محسوبةٍ عليهم، وفي هذا جور مُبين لن يغفره التاريخ. أما الطرف الذي يتصوّر أن الحراك السياسي اليومي المسنود بأعمال العنف تجاه الآخر، سواءً كانت السلطة أو الخصوم السياسيون، معطوفاً على نشاط الجمعيات والفعّاليات المعارضة التي تتبنّى جملةً من الشعارات الراديكالية، هو الحراك المعبِّر عن إرادة الجماهير كلها دون تمييز أو تمحيص، ومن ثم يُفترض أن يحظى بدعمها اللامشروط في الداخل، وفي المحافل الدولية، فهذا يعني في نهاية المطاف استلاب الإرادة السياسية للجماهير، على افتراض مصادقتها التامة على كافة المطالب، مع أن مواقفها تتفاوت بين المناصرة أو المناوئة، جزئياً أو كلياً، من جهةٍ، وبين الصمت أو اللامبالاة، من جهةٍ أخرى.
هنا يأتي دور التفكير العقلاني الذي يحتكم إلى منطق العقل والحكمة، فيحاول التوفيق بين الموقفين السابقين، وذلك عبر تحديد نقاط الاتفاق التي تجمعهما، ونقاط الخلاف التي تفرقهما، والموازنة بينها، بحيث يتم التوصّل للقواسم المشتركة بينهما، وتلبية المطالب الشعبيّة بالمزيد من الديمقراطية والشفافية في اتخاذ القرار السياسي، وبما يعزِّز أواصر الوحدة الوطنية!