كان لابد من الاستعانة بكل تلك المقتطفات من أقوال أولئك المسؤولين وتصريحاتهم التي أدلوا بها من أجل تقريب صورة النهايات التي يقترب منها المشهد السياسي السوري، والتي الأكثر بروزا من بينها جميعاً ذلك التقارب بين الموقفين الأمريكي والروسي بشأن الحلول الدولية المرسومة لإنهاء الأزمة السورية، وهو أمر أشار له بوضوح المبعوث الدولي والعربي إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي، عند تصريحه الصحافي الذي أكد فيه على أنه هناك «توافق تجلى في لقاء جنيف قبل أمس على أن الحل السياسي للأزمة ما زال ممكناً، وأنه يجب أن يكون بناء على اتفاق جنيف في 30 حزيران 2012». ثم أردفها في بيان له بعد محادثات أجراها مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، ومساعد وزير خارجية أميركا وليام بيرنز في جنيف، قال فيه «أنهم اتفقوا على أن السعي من اجل حل سياسي للأزمة السورية ما زال ممكناً، موضحاً أن المشاركين في الاجتماع سعوا إلى العمل على دفع عملية السلام وحشد المزيد من العمل الدولي لصالح حل سياسي للأزمة السورية، مضيفاً أن الاجتماع كان بنّاء وجرى بروح التعاون، حيث بحث الأطراف سبل المضي قدماً نحو عملية سلمية وتعبئة تحرك دولي أكبر من أجل حل سياسي للأزمة السورية».
لكن ما يعرقل تقدم مشروعات الحلول السياسية للأزمة السورية، رغم ذلك التوافق الدولي، يعود في أساساته، إضافة إلى العوامل الدولية، إلى مجموعة أخرى من العوامل الداخلية السورية المحضة، في تفاعلها مع تلك الإقليمية:
فعلى المستوى السوري؛ هناك أولاً، وإذا قدر للأمور أن تصل إلى مرحلة الحسم، تلك الفئة الاجتماعية الواسعة التي أفرزها النظام البعثي على مدى النصف القرن الماضي من حكمه، والتي تشكل نسبة لا يمكن الاستهانة بها، أو إغفال ثقلها في حال الإطاحة بنظام الأسد. هذه الفئة منتشرة أفقياً في صفوف المجتمع، لكنها أيضاً، وهو الأكثر خطورة وحضوراً، متغلغلة عمودياً في كل مؤسسة من مؤسساته على حدة، وعلى وجه الخصوص منها تلك يمكنها الانقضاض على أي مشروع قادم تشعر أنه يهدد مصالحها، والعمل إما على لي رقبته كي تضمن المحافظة على تلك المصالح والنفوذ وإما إجهاضه ووأده وهو في المراحل الأولى كي لا يرى النور، وبالتالي إدخال البلاد في صراعات يصعب على القوى الدولية حتى في حال اتفاقها على مشروع توافقي، والإقليمية والمحلية أيضاً التكهن بنهاياتها.
هذا على مستوى النظام الحاكم، لكن الأمور تزداد تعقيداً عندما نصل إلى القوى المعارضة، سواء تلك التي تحمل السلاح أو المكتفية بالأساليب السياسية، فهي الأخرى ما تزال تحكم العلاقات بينها الكثير من أوجه الشقاق، الأمر الذي ينذر بتفجره عند رحيل النظام القائم، والبدء في التأسيس لآخر جديد. الخطير في الأمر هنا هو تغلغل بعض رموز النظام البعثي، والبعض منها كان يحتل مناصب قيادية صاحبة قرار في ذلك النظام، في صفوف المعارضة وبرضى هذه الأخيرة ومباركتها، ومن ثم فهي «سوسة» كامنة قادرة على نخر النظام الجديد من الداخل في حال تعارض مشاريعه أو برامجه مع مصالحها. ما يدفعنا للتحذير من تلك القوى تجارب مريرة خلفتها النهايات التي أطلت برأسها بعد سقوط أنظمة مماثلة، كنتائج مباشرة لما أصبح يعرف باسم «الربيع العربي». ففي مصر ما تزال تلك الفئات التي أفرزها النظام، وهي شبيهة بشقيقتها السورية، ترفض أن تلقي السلاح وتستسلم وتصر على أن تكون لها حصتها عند تقسيم الحصص. والأمر ذاته ينطبق على القوى المعارضة التي تدور بينها اليوم، ومنذ سقوط حكم مبارك معارك أشد ضراوة من تلك التي عرفت الساحة المصرية قبل رحيل هذا الأخير.
ولا تختلف الصورة الليبية في الجوهر عن تلك التي نتحدث عنها في سوريا، ومن ثم فهناك كثير مما شاهدناه في ليبيا بعد تهاوي نظام القذافي يمكن أن يكرر نفسه في الشام في حال سقوط نظام الأسد.
من المحلي ننتقل إلى الإقليمي؛ وهنا تبرز مجموعة من المحاور التي تعبر عن مصالح وسياسات أربع قوى إقليمية رئيسة هي؛ إسرائيل، وإيران، وتركيا، والكتلة العربية التي تقودها الدول الخليجية. فهناك تضارب حاد في المصالح يحول دون الوصول إلى اتفاق بين هذه الأطراف بشكل ثلاثي، بل وحتى بشكل ثنائي. تكفي الإشارة إلى ذلك التناقض القائم والمتنامي بين تل أبيب وطهران أو بين هذه الأخيرة وإسطنبول.
فالخلاف الإيراني - الإسرائيلي فوق الساحة السورية فقط يمكنه أن يشكل عقبة كأداء أمام أية ترتيبات محتملة لنظام سوري يعقب رحيل الأسد. فمن جانبها تدرك إيران أن أي ترتيب من شأنه بتر الشريط الشيعي الممتد من طهران حتى يصل إلى نهاياته عند قواعد حزب الله في الجنوب اللبناني، مروراً ببغداد ودمشق، من شأنه إرباك خطواتها ليس في الساحة السورية فحسب، ولا في منطقة الشرق الأوسط فقط، بل سيمتد كي ينعكس سلباً على مشروعاتها في الدول الآسيوية المتاخمة لحدودها الشمالية الشرقية، وهو أمر لا تستطيع إيران القبول به وليس في وسعها أن تتحمل تبعاته. ومن ثم فهي ستسخر كل جهودها كي تأتي النهايات، إن لم تكن في صالحها، فليست مناهضة بشكل صارخ لتوجهاتها. وعند الحديث عن سياسات طهران لا ينبغي إغفال تداعيات نتائج ما يحسم في سوريا على موازين القوى العربية - الإيرانية في منطقة الخليج العربي، وهي المنطقة الأكثر حساسية في جسد الاستراتيجية الخارجية الإيرانية.
وفي طريق الخلافات الإقليمية التي نتحدث عنها هناك عقبات الخلاف التركي - الإسرائيلي، الذي رغم أنه تراجع إلى الخلف نسبياً خلال الأشهر القليلة الماضية لكنه من الخطأ تجاهل ذلك التناقض في علاقاته العميقة مع الصراع العربي - الإسرائيلي، وفي القلب منه في هذه المرحلة ما يدور على سوريا من صراعات. فذاكرتنا الحديثة ماتزال تحتفظ بآخر صورة للخلاف عندما أقدمت تل أبيب على قصف الباخرة التركية المتوجهة نحو غزة أثناء حصارها قبل أكثر من عام كي تحول دون وصول المساعدات التركية للفلسطينيين، وكانت تلك الحادثة هي الجزء الصغير الظاهر فوق سطح محيط الخلافات التركية والتي يعود البعض منها للصراع على مصادر المياه في المنطقة، لكن الأشد من بينها هو التنافس على زعامة منطقة الشرق الأوسط.
لذا من الطبيعي أن يترك أي تغيير في الساحة السورية بظلاله على موازين القوى في هذه المنطقة، ومن بينها تركيا وإسرائيل. هنا لا بد من التوقف إلى عمق التدخل التركي في الأزمة السورية، سواء من حيث احتضان إسطنبول لبعض فصائل المعارضة السورية أو لكون نسبة عالية من اللاجئين السوريين يقيمون فوق الأراضي التركية.
{{ article.visit_count }}
لكن ما يعرقل تقدم مشروعات الحلول السياسية للأزمة السورية، رغم ذلك التوافق الدولي، يعود في أساساته، إضافة إلى العوامل الدولية، إلى مجموعة أخرى من العوامل الداخلية السورية المحضة، في تفاعلها مع تلك الإقليمية:
فعلى المستوى السوري؛ هناك أولاً، وإذا قدر للأمور أن تصل إلى مرحلة الحسم، تلك الفئة الاجتماعية الواسعة التي أفرزها النظام البعثي على مدى النصف القرن الماضي من حكمه، والتي تشكل نسبة لا يمكن الاستهانة بها، أو إغفال ثقلها في حال الإطاحة بنظام الأسد. هذه الفئة منتشرة أفقياً في صفوف المجتمع، لكنها أيضاً، وهو الأكثر خطورة وحضوراً، متغلغلة عمودياً في كل مؤسسة من مؤسساته على حدة، وعلى وجه الخصوص منها تلك يمكنها الانقضاض على أي مشروع قادم تشعر أنه يهدد مصالحها، والعمل إما على لي رقبته كي تضمن المحافظة على تلك المصالح والنفوذ وإما إجهاضه ووأده وهو في المراحل الأولى كي لا يرى النور، وبالتالي إدخال البلاد في صراعات يصعب على القوى الدولية حتى في حال اتفاقها على مشروع توافقي، والإقليمية والمحلية أيضاً التكهن بنهاياتها.
هذا على مستوى النظام الحاكم، لكن الأمور تزداد تعقيداً عندما نصل إلى القوى المعارضة، سواء تلك التي تحمل السلاح أو المكتفية بالأساليب السياسية، فهي الأخرى ما تزال تحكم العلاقات بينها الكثير من أوجه الشقاق، الأمر الذي ينذر بتفجره عند رحيل النظام القائم، والبدء في التأسيس لآخر جديد. الخطير في الأمر هنا هو تغلغل بعض رموز النظام البعثي، والبعض منها كان يحتل مناصب قيادية صاحبة قرار في ذلك النظام، في صفوف المعارضة وبرضى هذه الأخيرة ومباركتها، ومن ثم فهي «سوسة» كامنة قادرة على نخر النظام الجديد من الداخل في حال تعارض مشاريعه أو برامجه مع مصالحها. ما يدفعنا للتحذير من تلك القوى تجارب مريرة خلفتها النهايات التي أطلت برأسها بعد سقوط أنظمة مماثلة، كنتائج مباشرة لما أصبح يعرف باسم «الربيع العربي». ففي مصر ما تزال تلك الفئات التي أفرزها النظام، وهي شبيهة بشقيقتها السورية، ترفض أن تلقي السلاح وتستسلم وتصر على أن تكون لها حصتها عند تقسيم الحصص. والأمر ذاته ينطبق على القوى المعارضة التي تدور بينها اليوم، ومنذ سقوط حكم مبارك معارك أشد ضراوة من تلك التي عرفت الساحة المصرية قبل رحيل هذا الأخير.
ولا تختلف الصورة الليبية في الجوهر عن تلك التي نتحدث عنها في سوريا، ومن ثم فهناك كثير مما شاهدناه في ليبيا بعد تهاوي نظام القذافي يمكن أن يكرر نفسه في الشام في حال سقوط نظام الأسد.
من المحلي ننتقل إلى الإقليمي؛ وهنا تبرز مجموعة من المحاور التي تعبر عن مصالح وسياسات أربع قوى إقليمية رئيسة هي؛ إسرائيل، وإيران، وتركيا، والكتلة العربية التي تقودها الدول الخليجية. فهناك تضارب حاد في المصالح يحول دون الوصول إلى اتفاق بين هذه الأطراف بشكل ثلاثي، بل وحتى بشكل ثنائي. تكفي الإشارة إلى ذلك التناقض القائم والمتنامي بين تل أبيب وطهران أو بين هذه الأخيرة وإسطنبول.
فالخلاف الإيراني - الإسرائيلي فوق الساحة السورية فقط يمكنه أن يشكل عقبة كأداء أمام أية ترتيبات محتملة لنظام سوري يعقب رحيل الأسد. فمن جانبها تدرك إيران أن أي ترتيب من شأنه بتر الشريط الشيعي الممتد من طهران حتى يصل إلى نهاياته عند قواعد حزب الله في الجنوب اللبناني، مروراً ببغداد ودمشق، من شأنه إرباك خطواتها ليس في الساحة السورية فحسب، ولا في منطقة الشرق الأوسط فقط، بل سيمتد كي ينعكس سلباً على مشروعاتها في الدول الآسيوية المتاخمة لحدودها الشمالية الشرقية، وهو أمر لا تستطيع إيران القبول به وليس في وسعها أن تتحمل تبعاته. ومن ثم فهي ستسخر كل جهودها كي تأتي النهايات، إن لم تكن في صالحها، فليست مناهضة بشكل صارخ لتوجهاتها. وعند الحديث عن سياسات طهران لا ينبغي إغفال تداعيات نتائج ما يحسم في سوريا على موازين القوى العربية - الإيرانية في منطقة الخليج العربي، وهي المنطقة الأكثر حساسية في جسد الاستراتيجية الخارجية الإيرانية.
وفي طريق الخلافات الإقليمية التي نتحدث عنها هناك عقبات الخلاف التركي - الإسرائيلي، الذي رغم أنه تراجع إلى الخلف نسبياً خلال الأشهر القليلة الماضية لكنه من الخطأ تجاهل ذلك التناقض في علاقاته العميقة مع الصراع العربي - الإسرائيلي، وفي القلب منه في هذه المرحلة ما يدور على سوريا من صراعات. فذاكرتنا الحديثة ماتزال تحتفظ بآخر صورة للخلاف عندما أقدمت تل أبيب على قصف الباخرة التركية المتوجهة نحو غزة أثناء حصارها قبل أكثر من عام كي تحول دون وصول المساعدات التركية للفلسطينيين، وكانت تلك الحادثة هي الجزء الصغير الظاهر فوق سطح محيط الخلافات التركية والتي يعود البعض منها للصراع على مصادر المياه في المنطقة، لكن الأشد من بينها هو التنافس على زعامة منطقة الشرق الأوسط.
لذا من الطبيعي أن يترك أي تغيير في الساحة السورية بظلاله على موازين القوى في هذه المنطقة، ومن بينها تركيا وإسرائيل. هنا لا بد من التوقف إلى عمق التدخل التركي في الأزمة السورية، سواء من حيث احتضان إسطنبول لبعض فصائل المعارضة السورية أو لكون نسبة عالية من اللاجئين السوريين يقيمون فوق الأراضي التركية.