عاد الحديث مجدداً عن الحوار، وبدأ الجدل حول هوامش الحوار، ومازال الحديث عن الجوهر غائباً، يُجادل الشارع في قبول الحوار أو رفضه، وتُجادل الجمعيات السياسية في موضوع التمثيل في الحوار، والبعض يُجادل في درجة التنازلات التي قد تقدمها الدولة وفي الاتفاقات من أسفل الطاولة التي قد تتبادلها الأطراف المتحاورة، مما يشكك في قيمة أي حوار يدخل إليه أغلب المتحاورين بهواجس الربح والخسارة الذاتية بعيداً عن مصير البحرين ومصالح شعبها . إن الحوار هو بداية الخروج من أزمة البحرين، شريطة أن يشرع الحوار لوضع حلول فاعلة للمشكلات الحقيقية التي سببت الأزمة، أما إذا هدف الحوار إلى الخروج بترضيات ومحاصصات تخفض درجة حرارة الواقع الآني، فإن الحوار سيكون عملية ترحيل زمني للمشكلات وربما مرتعاً لخلق مشكلات جديدة.
وإذا كان أول ما يشغل الشارع، خصوصاً شارع الفاتح، هو قضية التمثيل لأنه مرتبط في شكوكهم بموضوع التنازلات التي قد تقدمها الحكومة للمعارضة على حساب الفاتح، فإن التمثيل يجب ألا يقتصر على الجمعيات السياسية التي تبحث هي الأخرى عن موقعها في نتائج الحوار، بل يتعين أن تشارك في الحوار المرتقب النخب الفكرية والشخصيات الوطنية (المستقلة) عن المناصب الرفيعة في الدولة وعن الانتماء لعضوية الجمعيات السياسية، وهذا لا يعني العودة إلى آلية حوار التوافق الوطني الأول الذي عقد في 2011، بل يعني مشاركة الكفاءات البحرينية (المستقلة) ذات الوعي بالوضع السياسي والاقتصادي البحريني في إيجاد أفق لحل الأزمة التي طال مداها. في واقع الأمر، إن الجمعيات السياسية قد أصبحت جزءاً من الأزمة البحرينية يصعب بصدده أن تكون هي راعية الحل. فجمعية الوفاق وحليفاتها من جمعيات المعارضة التأزيمية تستغل انقياد الشارع خلفها بفعل تأثير المرجعية الدينية في الضغط على الدولة واستنزافها، وسقوط الضحايا من صفوفها هو عامل مساعد لاستمرار حركة الشارع وتجييشه وليس نتيجة محذورة تخشى المعارضة التأزيمية الوقوع فيها. أما جمعيات الفاتح فلم تتمكن بعد من تمثيل شارع الفاتح ولم تحسن التواصل معه ولم تعبر عن هويته وقضاياه ومشاكله وطموحه، ولم تتمكن، بعد، من التنسيق مع بعضها لطرح مشروع وطني يواجه المشروع الإقصائي للمعارضة؛ لذلك فإن قطاعاً واسعاً من شارع الفاتح يرى التحاق جمعياته السياسية بالحوار من عدمه سيان في النتائج وأشبه بذر رماد رفع العتب في عيونهم، لذلك سيكون من المحمود أن تشارك أطراف نخبوية مستقلة عن البارغماتية السياسية في الحوار وفي صياغة الحلول المأمولة للأزمة البحرينية .
هناك العديد من المشكلات المرتبطة ارتباطا حيويا بالأزمة البحرينية (بمعنى أنها مصدر حياة الأزمة)، وإذا كانت أطراف المعارضة مصرة حتى آخر زجاجة مولوتوف على التعديلات الدستورية وإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية وتداول السلطة معتبرة أن ذلك هو طريق الحرير نحو الديمقراطية الأوروبية، فإنها تتجاهل عن عمد نتائج التجربة الديمقراطية العربية الجديدة، التي تترنح بشكل واضح، في مصر وتونس التي أثبتت أن الانتخابات وصناديق الاقتراع والاحتكام لإرادة الشارع في ظل واقع من ارتفاع نسبة الأمية وانخفاض الوعي ووقوع أغلب الشعوب تحت تأثير الخطاب الديني ليس إلا سبيلاً لهيمنة طرف على آخر، وهذا ما صرح به الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في خطابه الشهير أمام حزبه، حين بين أن إصرار الإسلاميين في هذه المرحلة على النظام البرلماني ليس إلا إدراكاً منهم بأنهم يمتلكون التأثير على الشارع في هذا الظرف الثقافي والتاريخي الخاص، ولا أظن الوفاق وحليفاتها خارج هذه التصور، لذلك، ففي تقديري، أن أهم ما يجب أن يتفق عليه من سيدخل الحوار المرتقب هو إيجاد سبل لضبط عمل اثنين من (مراكز القوى) في البحرين هما؛ الحكومة والمجلس العلمائي. نتفق مع المعارضة في أهمية تشكيل حكومة فنية من كفاءات تكنوقراطية ليس فقط على مستوى الوزراء بل حتى في الوظائف التنفيذية التي تتطلب تخصصا وكفاءة عالية في إدارة العمل، ونتفق معهم في ضرورة مراقبة عمل الحكومة ومحاسبة الوزراء وسحب الثقة عمن يتجاوز في أداء مهامه، ونتفق معهم في ضرورة مراقبة ميزانية الدولة وتحويل الفاسدين ومهدري المال العام إلى القضاء، فهذه كلها مطالبنا قبل أن نشترك معهم فيها، ولكننا نطالب كذلك بتساوي كفة موزاين البلد وتطبيق القانون على الجميع، فالمجلس العلمائي والمرجعيات الدينية ليست خارج المحاسبة والمساءلة، فأموال الخمس التي تجمعها المرجعيات ومجالات صرفها يتعين أن تخضع هي الأخرى لمراقبة الدولة وللمحاسبة في التصرف فيها، وانحراف الخطاب الديني عن الوحدة الوطنية وانزلاقه في التحريض أمر يستوجب المساءلة بغض النظر عن الشخوص، فالذين يطمحون إلى وضع ديمقراطي يسائلون فيه رئيس الحكومة لن يستطيعوا إقناعنا بديمقراطيتهم ومصداقيتهم إذا كانوا يضعون خطاً أحمر من الحصانات أما زعاماتهم الدينية، ويدعون إلى الاحتشاد وتقديم فروض الولاء والطاعة من أهل القرى حينما يتعرض الإعلام أو الحكومة بالنقد لأحد رجال الدين!!
النقاش حول تركيبة الحكومة القادمة وكفاءتها في أداء مهامها خارج محاصصات الجمعيات السياسية سيخفف الكثير من أزمات البحرين في تولية الأكفاء وتقدم عجلة التنمية وتلبية احتياجات المواطنين واستمرار البحرين في تصدر مجالات التنمية بعد أن بدأت العديد من دول الخليج تتجاوزها، والنقاش حول الوضع غير القانوني للمجلس العلمائي غير المرخص، ودوره في تعطيل بعض القوانين المدنية مثل قانون الأحوال الشخصية الجعفري، ودوره في إضفاء شرعية على بعض الممارسات الخارجة عن القانون والتي تضر بلُحمة الوطن، هو نقاش في الجوهر، وقد يوفر الأرضية الخصبة لمناقشة باقي حلول الأزمة البحرينية ومنها توسيع صلاحيات مجلس النواب وتقليل صلاحيات الشورى وغيرها من القضايا المطروحة للنقاش، أما إذا بقي الجدل الذي يسبق الحوار متوقفاً على المسائل الهامشية وإذا دار الحوار الفعلي بأجندات براغماتية (نفعية) تخص الأطراف المشتركة في الحوار بمزاعم أنها تمثل (الشوارع) البحرينية، فلن يكون الحوار إلا جولة من جولات مراحل الأزمة البحرينية.
- عيدية..
مهما اشتدت الأزمة وطالت يبقى سر من العشق تبوح به رمال البحرين يخبرك أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. «كل عام والبحرين بخير».