يا جماعة الخير، من يريد اليوم أن يرفع ضغطه وأن يجلب لنفسه الجلطة فليتصفح باباً واحداً من أي تقرير للرقابة المالية. بل من يريد أن يقلب شعره الأسود إلى أبيض وبأسرع وقت عليه أن يحاول فقط أن يتحول لـ»عنتر» ويقول سأحارب الفساد.
مثلما يقول المثل الدارج «الشق أكبر من الرقعة»، وبالتالي لا تلوموا مجلس النواب وأعضاءه إن كانوا للتو سيناقشون تقرير الرقابة لعام 2010، رغم أن مصير التقارير السابقة أصبحت في غياهب النسيان. بل لا تلوموا النواب حينما يماطلون في شأن التقرير الحالي، وكأن لسان حالهم يقول «شيلوه عنا»، إذ الحالات التي أمامهم تعجز أي قوة على هذه الأرض، إذ ما الذي «سيرقع» هذه المصائب؟!
للظاهرة قصة تحكي بدايتها، مثلاً الانهيار الثلجي -الذي لا يمكن التصدي له- يبدأ بدحرجة كرة ثلج صغيرة، وحينما تتجاهل هذه الكرة الصغيرة التافهة فإنها تمضي في طريقها لتكبر وتكبر حتى تصبح إنهياراً مزلزلاً يدفن مدناً ويقتل العشرات.
يحكى أنه في إحدى الدول (ليس في البحرين أبداً) تم إسناد مسؤولية قطاع معين لشاب عين لحسبه ونسبه وطبعاً لا ننسى علمه وثقافته ودرجته العلمية، وأعطي الخيط والمخيط، لكن المشكلة كانت بأن عليه التعامل مع أموال الدولة، ولأنه قليل خبرة، ولأنه «ولد حمولة» تعود على الأمر والنهي فإنه عمل بما فرضته عليه نشأته بحيث لم يحاسب في حياته أبداً على أخطائه، وعليه تم الاستهتار بالأموال، وتم الفشل في توظيفها واستثمارها فجاءت النتيجة كارثية، خاصة وأنها أموال الدولة.
الآن، هذا الشاب اللطيف المؤدب أخطأ، ولأن الخطأ جاء بحق أموال عامة كانت تستدعي محاسبته وأقل شيء إقالته، لكن ما حصل –وهنا نتحدث عن أسلوب المعالجة- بأن الإجراء تمثل فقط بتغيير موقعه وندبه لجهة أخرى ليجرب فيها مرة أخرى. طيب حمينا الشخص نظراً لمكانته الاجتماعية، لكن كيف نعيد أموال الناس؟!
هذه الحادثة ليست في البحرين، أكرر ليست في البحرين، والشخصيات وهمية ولا تمت للواقع بصلة، بيد أن المقصد هنا وهو ما يؤسس لحالة «استفشاء» الفساد لدينا وتضخمه، أنه عندما يكون هناك خطأ وتجاوز ولا تكون هناك محاسبة لاعتبارات معينة، فإننا نؤسس هنا لعرف سيمضي عليه الكثيرون، وإن كانت المحاسبة حالة «خرافية» نسمع بها ولا نراها، فإن الوصول لمستوى الفساد والهدر المالي في تقارير الرقابة المالية لدينا مسألة عادية جداً، بل توقعوا أكثر.
مشكلتنا في دولنا العربية بالأخص الخليجية أنه حينما يستهتر «ابن الحمولة» ويضيع أموال الدولة لا يحاسب، وعلى شاكلته الكثير من أبناء العوائل والواصلين والمقربين الذين يتم التغاضي عن أخطائهم، نجد أنه حينما يستهتر في المقابل «العبد الفقير لله» وحينما يخطئ تكون عقوبته وخيمة، بل تعدينا هذه المرحلة فأصبحت المحاسبة لا تطال الصغار لأن الكبار أصلاً خارجون منها.
أتذكر قبل 19 عاماً وبعيد حصولي على رخصة القيادة بأيام وعلى شارع كانت سرعته محددة بستين كيلومتراً في الساعة، أوقفني رجل مرور باعتبار أنني تجاوزت السرعة، وكنت حينها متأكداً بأنني أسوق في حدود السبعين ولم أتجاوز أكثر. على جانب الطريق وقفت مع الشرطي متقبلاً المخالفة التي بدأ بكتابتها، وفي تلك الأثناء مرت علينا سيارة «كشخة» ورقمها «أكشخ» بسرعة جنونية أقسم بأنها تفوق المائة والعشرين. لحظة صمت اقتصرت على النظرات بيني وبين الشرطي قطعتها بقولي له: «روح لحقه، وقفه، خالفه، وإلا قوتك علينه بس؟!». نظر لي بعين حمراء وقال: «روح ولا تعودها»!
هذه هي المصيبة، وهذه هي الكارثة، والله أتذكر في حوار التوافق الوطني بعض المسؤولين وبعض التجار وكثير من الجالسين فتحوا عيونهم على الآخر حينما قلت بشأن الفساد ما يلي: «في رأيي وقناعتي بأن محاربة الفساد تكون بإلزام إعادة كل فلس أحمر تمت سرقته أو الاستهتار به، مع ضرورة معاقبة المفسد والوصول لدرجة فضحه، هذه أموال بلد وليست أموالاً خاصة يلعب فيها البعض». أذكر أن أحدهم دنا مني في الاستراحة وقال لي: «الله يهديك يا فيصل، تبي تسوي مصيبة في الديرة، ناوي تسجن نص البلد؟!»، رددت عليه باستنكار واستغراب: «قصدك عادي يعني إذا نص البلد حرامية؟!».
والله نكتب ما نكتبه هنا وقلوبنا على البلد ونوايانا صادقة، هل تحتاجون لعدسات مكبرة لتروا الفساد ولتروا المفسدين، رغم أن كل شيء على الواضح والمكشوف، ورغم أن لدينا اليوم توثيقاً عليهم كتقارير الرقابة المالية؟! ماذا تنتظرون؟!
والله مللنا شعارات معنية بمحاربة الفساد، والفساد يكبر يوماً إثر يوم، والله لو كان الفساد رجلاً لضحك علينا.
^ اتجاه معاكس..
- صحيفة «الأيام» البحرينية في عددها بتاريخ الأول من نوفمبر وفي صفحتها السابعة عشرة وفي معرض نشرها لأجزاء من تقرير ديوان الرقابة المالية، كتبت بالبنط العريض العنوان التالي «بابكو تتربع على عرش المخالفات وتهدر الملايين».
من سيقرأ تفاصيل الموضوع المنشور على امتداد صفحة كاملة سيضيع في الأرقام، وسيكره الرياضيات والحساب إن حاول أن يحسب مجموع المبالغ المهدرة بالملايين.
هذا الموضوع لوحده يمكنه أن يتسبب بسكتة قلبية لمن يريد محاربة الفساد، وبحد ذاته يبين بأنه لو أردنا «ترقيعها» فوالله ما «تترقع».
فقط سلموا لنا على الوزير المعني بالشركة، يقولون للحين في منصبه!
- لا الدولة راضية تقيل المخطئين من المسؤولين والوزراء، ولا المسؤولون يعرفون شيئاً اسمه «الاستقالة»! أصلاً كلمة «الاستقالة» حذفناها من القاموس من زمان، والحاضر يبلغ الغايب!