إن إحدى المعضلات التي يواجهها المرء عند محاولته تأصيل ثقافة العقلانية في مجتمعنا البحريني الوديع تتمثل في الاتهامات الموجهّة للعقلانيين والمعتدلين بأنهم أناس طارئون على السياسة، ولا يكترثون بمشاعر الآخرين ومعاناتهم، والأضرار المادية النفسية التي لحقت بهم منذ اندلاع الأزمة السياسية قبل أكثر من عام ونصف، وأنهم يستغلون الظروف القائمة لتحقيق مكاسب دنيوية لإبقاء فتيل الأزمة مشتعلاً، ناهيك أنهم سريعو التصديق، لذا ينحازون باستمرار إلى مواقف الجهات الرسمية، ويتولّون الدفاع عنها في المحافل المختلفة، ويروِّجون لها علانيةً. أتصوّر أن لب المشكلة هنا يتلخّص في أن الناس البسطاء درجوا دوماً على التفكير بمنطق الثنائية القُطبية، إن جاز التعبير، فأنت كمواطن إما أن تكون مؤيِّداً أو معارضاً ولا ثالث بين هذين الموقفين، أما أن تتخذ موقفاً معتدلاً أو متوازناً يتفهّم موقف الجهات الرسمية، وخلفيّته، ودوافعه، من جهةٍ، وفي الوقت ذاته لا يخِّل بمطالب المعارضة، أو يستصغرها، من جهةٍ أخرى، فهذه تكاد تُصنّف في العرف العام ضمن «البدع» غير المألوفة، والتي من الواجب مقارعتها. حينما تتخذ الجهات الرسمية إجراءً معيناً، سواءً على صعيد السياسة أو الاقتصاد أو التعليم أو العمل، فإن الشخص العقلاني أو معتدل الرأي، يحتكم إلى منطق العقل والحكمة، فيحاول أن يبحث في دوافع ذلك الإجراء وخلفيّته، ومدى توافقه مع مصلحة الوطن وأبناء الوطن، بالدرجة الأولى، ويسعى ببصيرته وسعة أفقه لتجريده من سياقه الطائفي أو الزمني، ومن ثم يتمكّن، من إزالة الغشاوة التي قد تجرّه إلى تفسيرات مبتذلة، أو غير مقنعة في أحسن الأحوال، لذلك الإجراء، فهو إذن يفضِّل النظر إلى المشهد كاملاً مع علمه التام بأن الكمال لله وحده، وأن هذا الإجراء قد تعوزه مثلاً بعض الحيثيات أو المبرِّرات الحصيفة التي تعزِّز قبوله لدى العامة، إلا أنه، وخلافاً للشخص الذي اعتاد النظر إلى كل ما تفعله السلطة باعتباره «ذنباً لا يغتفر»، قد يعتبره خطوةً إيجابيةً في اتجاه حلحلة الوضع يمكن أن تُبنى على أساسها خطوات أخرى، دون أن ينحاز له بشكلٍ أعمى، فحدسه الداخلي يعينه على تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتحديد مدى إمكانية مؤازرة الموقف الرسمي، مع الاحتفاظ بحقّه الشخصي في الاعتراض والنقد!.