المؤمن الحقيقي بالعدالة الإلهية ما زال متوفراً في عالمنا الذي سموه بالحضارة المادية؛ حضارة الركض وراء لقمة العيش والمال والربح السريع، والركض وراء الموضة وأحدث صرخات التليفونات المحمولة، ومتابعة أخبار الحروب الأهلية والطائفية والمنازعات التي لا تتوقف إلا لتبدأ بصورة أكثر عنفاً وأكثر دموية. إلا أن الإيمان الحقيقي النابع من المحبة لله ولمخلوقاته مازال يتحرك هنا وهناك، ليخبرنا أن الدنيا ما زالت بخير، وأن أصحاب القلوب الكبيرة متوفرون في كل بقعة من بقاع العالم رغم اختلاف اللغات والأديان والأعراق والألوان.رأيت المؤمن الحقيقي أمامي كأنني أقرأ إحدى السير في التاريخ العربي الإسلامي أو أستمع إلى إحدى حكايات الأجداد في الصحراء العربية، أو أقرأ قصة من قصص الحكماء في العالم.في صباح الأحد الماضي، قرأت باندهاش كبير الخبر الذي نشرته جريدة “الوطن” البحرينية تحت عنوان عريض (سعودي يعتق رقبة قاتل ولده مقابل حفظ القرآن)، ويقول الخبر.. في حالة فريدة فوجئ محكوم بالقصاص بزيارة والد القتيل له داخل السجن بالدمام، ويبشره بعتق رقبته لوجه الله تعالى، مشترطاً عليه حفظ القرآن الكريم قبل الخروج من السجن، في حين كان الجاني ينتظر تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه، متوقعاً أن يدخل عليه السجان في أي لحظة ليسحبه إلى ساحة القصاص.وبحسب صحيفة “اليوم” تعود تفاصيل القضية إلى أن القاتل فيصل العامري كان قد أدين بالقصاص لقتله عبدالله الدوري، وذلك خلال مضاربة جماعية وقعت في الحي الذي يسكنان فيه، وكانت اللجنة العليا للإصلاح بالمنطقة الشرقية قد سعت لإقناع “ولي الدم” بالتنازل لوجه الله تعالى، وبالفعل هذا ما حدث عند الاجتماع به، حيث عفا عن القاتل، رافضاً استلام أي مبالغ مقابل ذلك. (انتهى الخبر)هذا الخبر جعلني أتمنى أن التقي بهذا الوالد الحليم من أجل تقبيل رأسه، فهذا النوع من الناس يعبر بصورة صادقة، وهي أن أي إنسان قلبه عامر بالمحبة لله سبحانه وتعالى قادر على العفو والمسامحة وغفران الإساءة، ولا أتصور أن هناك أكثر جرما من قتل ولدك، لكن هذا الأب العظيم الكريم يعرف أن إعدام قاتل ولده لن يعيد الابن إلى الحياة، وبدلاً من إزهاق روح واحدة ستكون هناك اثنتان. هذا الأب الرائع يعرف أن الله غفور رحيم، لذلك لم يطلب المال، الديّة، ولم يطلب الانتقام من قاتل ولده، إنما طلب منه فقط أن يحفظ القرآن الكريم. وهو بهذا يعرف أن حافظ القرآن سيعرف ما وراء الحروف والكلمات والجمل، وسيدخل في البحث عن التفسير، أنه سيولد من جديد، وبالتالي سيعي أن الوصول إلى أسمى معاني الحياة قد يمر من أسوأ الطرق.إن الفكرة التي انطلق منها والد الابن المقتول تعيد إلينا وتفتح ذاكرتنا على المسلمين الأوائل الذين قاموا بإطلاق الأسرى من أعدائهم بعد الحرب، بشرط تعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة. إن ولي الدم الذي عفا عن قاتل ابنه أرى شخصياً أنه من الضروري أن يقلد بأرفع أوسمة السلام، ليس من المملكة العربية السعودية؛ إنما من كل العالم، لأنه أثبت لنفسه وللآخرين أن الانتقام لا يعيد الميت إلى الحياة، إنما المحبة والسلام هي التي تعيد الحياة إلى فطرتها التي نسيتها وهي تلاحق ظلال التكنولوجيا التي لن تتوقف إلا بعد أن تحيل أغلبية الناس إلى جثث تمشي، أو كما تسمى بالزومبي؛ الميت المتحرك.لهذا الإنسان الكبير في الروح والقلب والموقف كل التقدير والاحترام، له كل المحبة، من كل إنسان عرف طريق الرحمة فتبعه. وعرف طريق فأبى إلا أن يمشيه، له أنحني وأقبل رأسه وجبينه.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90