عبد الرحمن الراشد كاتب ومحلل سياسي قادر على شرح أفكاره بقوة ووضوح. كتب منذ شهر تقريباً في جريدة «الشرق الأوسط» عموداً بعنوان «انهيار مصر.. فكرة مروعة»، ما أدهشني إلى حد الصدمة في هذا العنوان هو استخدامه لكلمة غريبة على قاموسه وهي كلمة «مروعة». هو في تحليله يرى أن الرئيس مرسي، إذا رفض أو عجز عن التصالح مع المعارضة «فالأرجح أننا سنستيقظ على إعلان حكم عسكري خلال الأشهر القليلة المقبلة، وستخسر مصر، ويخسر معها العالم العربي، أهم تغير في 100 عام» غير أنه لم يجب عن سؤال لا بد أنه قد ساورك وهو.. ما هي طبيعة تلك الخسارة ونتائجها على الأرض بالنسبة للعالم العربي؟
هنا أنا أحاول التعامل مع فكرته عن انهيار مصر، خاصة أنني أعتقد أنه ليس من هؤلاء الكتاب الذين يسرفون في استخدام الكلمات، أو يتوهمون أخطارا لا وجود لها. هو بالفعل باستخدامه لهذا الوصف يستشعر خطراً حقيقياً على مصر وعلى المنطقة العربية وهو ما سبق له أن عبر عنه في أعمدة سابقة.. ترى ما هي أبعاد هذا الخطر؟
وإذا كان هو وكل الكتاب والمحللين الراشدين، يستشعرون الخطر ويرونه عن قرب أو عن بعد، فأنا أعترف بأنني لست أراه، بل أعيشه في كل لحظة وهو ما يجعل مجال الرؤية أمامي ليس محدوداً بل واضحاً، وهو.. لن تخسر مصر ومعها العالم العربي أهم تغيير حدث في المائة عام الأخيرة فقط، بل إن المرشح للدمار والضياع، هو الحلم العربي ذاته، حلم التقدم والوصول إلى المجتمع المدني الحر والحفاظ عليه. لست أتكلم عن الحلم العربي كما تعبر عنه الأغاني والشعارات الحماسية، بل بوصفه الأمل عند كل المثقفين العرب للحياة في مجتمعات تتمتع بالحرية وحقوق الإنسان والحق في المزيد من التقدم. بمعنى أكثر وضوحاً، انهيار مصر يعني هزيمة قوى التقدم المدنية في المنطقة العربية بما يترتب على ذلك من تأثيرات خطرة على المنطقة ككل. في كل مراحل تاريخ المنطقة القريب، كانت مصر تمثل المنارة المضيئة في بحر العرب متلاطم الأمواج، كل سفن العرب الواثقة من خط ملاحتها أو التائهة كانت تنظر لها من بعيد بوصفها النجم الهادي. لست أتكلم عن الذكريات الجميلة، أو الاعتراف بالفضل عند الأغلبية أو الأقلية العربية، بل أمضي إلى ما هو أبعد من ذلك وهو أن وجود مصر بصحة جيدة يمنح الجميع الأمل بمواصلة السير في طريق التقدم، هي حسابات ليست من نتاج الوعي بل صنعها اللاوعي الجمعي لسكان المنطقة عبر طبقات التاريخ، والذي ثبت بالفعل أنها حقيقية وذلك عبر أحداث جسام لعل أقربها إلى الذاكرة اشتراك القوات المسلحة المصرية في تحرير الكويت. لم تكن حسابات السعودية خاطئة سياسيا عندما وقفت في الخرطوم بعد هزيمة 1967 مؤيدة وداعمة لجمال عبد الناصر، على الرغم من القطيعة بينهما، هذه لحظة من لحظات التاريخ التي وقف فيها العرب ضد انهيار مصر، لأنهم يعون جيدا أن انهيارها انهيار لهم جميعا كأنظمة وشعوب. طوال القرن التاسع عشر تم التركيز على معاركنا مع الاستعمار للحصول على الاستقلال، غير أن حربا أخرى كانت قائمة والتي ما زالت مستمرة حتى الآن، وهي الحرب بين قوى التأخر وقوى التقدم في كل بلد عربي. وهذا النوع من الحروب هو أخطرها، فليس أمامك عدو يسكن حصونا يمكن تدميرها، حصونه هي قلوب البشر وصدورهم وقلوبهم، من المستحيل الوصول مع قوى التأخر إلى اتفاقيات سلام، كل ما هو متاح لقوى التقدم هو طرد العدو من أحد مواقعه كل يوم أو في كل لحظة وهو أمر صعب للغاية استغرق حسمه في الغرب عدة مئات من السنين. قوى التخلف لا تهاجم قواتك المسلحة بل تتسلل إليها بعمليات اختراق بطيئة وناعمة، وهو بالضبط ما تفعله مع كل مؤسسات الدولة في انتظار اللحظة التي تهاجم فيها علنا كل قوى التقدم. وإذا كانت قوى التقدم تعتمد على العلم والمعرفة، فقوى التأخر تعتمد على أقوى سلاحين في التاريخ وهو الجهل والخرافة. هكذا استمرت الحرب على الأرض العربية في المائة عام الأخيرة. طوال الوقت لم تكن هناك معارك واضحة بين الطرفين بل مناوشات وعمليات كر وفر. غير أن المثقف العربي بوجه عام لم يشعر ولا للحظة واحدة بأن قوى التخلف قادرة على هزيمته أي هزيمة المشروع العربي، فوجود مصر متماسكة كقوة تقدم أساسية كانت تحميه من قوى التأخر.
الأنظمة العربية المستقرة قادرة على حماية نفسها ضد أي تهديد من الداخل والخارج، بتنظيماتها الداخلية وبتحالفاتها أيضا، ولو أن النظام في طهران لم يكن على وعي بذلك، لكان هاجم هذه الأنظمة جميعاً بقواته المسلحة وحرسه الثوري لفرض السيطرة الإيرانية عليها. لذلك ستلاحظ أنه يكتفي بالاستعراضات البحرية والعسكرية بهدف الإزعاج وإشاعة التوتر في المنطقة فقط. وبذلك يكون الخطر الحقيقي على المنطقة هو انهيار مصر الذي وصفه عبد الرحمن الراشد بأنه فكرة مروعة. المزيد من تقدم قوى التأخر في مصر، يجعل مكاتب المسؤولين عن الأمن القومي في البلاد العربية مضاءة طوال الليل لمتابعة ما يحدث في مصر لحظة بلحظة بعد أن أصبحت مصر مصدراً للخطر.
لا أحد في المنطقة العربية يريد الانهيار لمصر، لا أحد سيرسل بمن يتآمر عليها، الخطر على مصر والمصريين يأتي فقط من داخلها من هؤلاء الذين يزينون للنظام اتخاذ قرارات يتحقق بها التخلف والتأخر. هذا وقت القرارات الشجاعة، على مفكري جماعة الإخوان أن يكتشفوا بأنفسهم أن الجماعة بتشكيلاتها عاجزة عن التوافق مع العصر.. أذكركم بأن الحذر يؤتى من مكمنه. فلا تكمنوا داخل الجماعة، المصريون ليسوا جماعة دينية بل سياسية تسكن بلدا، ولديكم حزب عليكم أن تثبتوا أنه حزب حقيقي قادر بقوته الذاتية على العمل السياسي في وضح النهار.
أعترف بأنني أتألم بأكثر مما أفكر، فما يحدث حولي يعجزني عن التفكير الصحيح، أنا عاجز عن التفكير في أن السلطة الحاكمة في مصر الآن، عاجزة عن حماية أشهر مبانيها وهو مجمع التحرير، عاجزة عن حمايته في مواجهة عدد من الناس أطلقوا عليهم اسم «المعتصمين»، هؤلاء المعتصمون منعوا الموظفين من دخول المبنى بالقوة، كما منعوا الناس أصحاب المصالح والحاجات من دخول المبنى. أنا أحمد الله على أنني لست جزءاً من السلطة الحاكمة في مصر، ولست واحداً من مستشاريها، فلقد كان من الممكن أن أصدر أوامري بالدفاع عن مبنى المجمع مهما كانت خسائري وخسائر المعتصمين. أو ربما كنت سأتخذ قراراً آخر هو: يخصم مرتب نصف شهر من كل مسؤول في رئاسة الجمهورية والحكومة عند حدوث أي اعتداء على مؤسسة عامة أو خاصة. أؤكد لك أن قراري هذا سيغير وجه الحياة في مصر.
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}