«لدينا إصرار على الوصول بالإمارات للمراكز الأولى عالمياً، إذا لم نبادر بصنع المستقبل فستصنعه لنا الظروف المحيطة بنا.. نحن لا نتوقع المستقبل.. نحن نصنعه.. رؤيتنا واضحة وطموحاتنا كبيرة.. والمستقبل لا ينتظر المترددين». هذا مقتطف جاء في كلمة رئيس وزراء دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن راشد آل مكتوم لدى إعلانه عن مدينة محمد بن راشد في دبي عاصمة جديدة لريادة الأعمال ومركزاً عالمياً للسياحة العائلية، والتي ستضم أكبر مول في العالم وحديقة مجهزة لاستقبال 35 مليون زائر وأكبر مركز ترفيهي عائلي في المنطقة.. إلخ.
تجربة دبي لا تحث على الانبهار، لكنها تدعو إلى التمعن وتجبر من يتابعها عن قرب على قراءة خطواتها بشيء من التروي البعيد، كما قلت عن الانشداه الساذج والمتحاشي للغيرة أو الحسد. فإمارة دبي بسكانها الذين لا يتجاوز عدد الأصليين منهم حفنة من مئات الآلاف من البشر، ودخل سنوي لا تتجاوز حصة البترول الخام فيه 7.0%، تختلف عن أخواتها من الإمارات الست الأخرى من حيث القدرة على النمو بالمعنى الاقتصادي للكلمة. ولا يعود ما تحققه اليوم إمارة دبي من إنجازات لقدرات «سو برمانية» يتمتع بها محمد بن راشد، أو حتى والده المرحوم راشد بن سعيد؛ بل هي في حقيقة الأمر محصلة تزاوج ظروف إقليمية محيطة سوية مع قرارات دولية متزامنة، وقيادة محلية رائدة، أدت جميعها إلى تفرد دبي في خطواتها وثباتها على الطريق التي أوصلتها إلى المركز الذي تتبوأه اليوم، والذي جعلها قبلة سياحية دولية ومحط أنظار الاستثمارات العالمية.
ليس هناك من ينكر أن أحد أسباب هذه «النهضة الدبوية» تعود في جذورها إلى قرار بريطاني في أواخر الستينات من القرن الماضي الباحث عن مركز لحركة تهريب مواد خام الأحجار الكريمة من ذهب وألماس من بعض الدول الأفريقية مثل جنوب أفريقيا والآسيوية مثل الهند إلى أوروبا، وكانت دبي حينها، وباتفاق ضمني غير مكتوب، الوحيدة من سائر دول المنطقة التي لم ترفض العرض البريطاني دون أن تترك الأمور سائبة، بل تم ذلك تحت مراقبتها الدقيقة ومتابعتها المستمرة لتلك الحركة كي تتمكن من التحكم في آلياتها متى ما اقتضت الحاجة ذلك.
وبالقدر ذاته ليس هناك من في وسعه نفي سعة الأفق التي كان يمتلكها راشد بن سعيد بن مكتوم، الذي أعطى الأسبقية في أولويات الإمارة الفقيرة حينها إلى «التجارة والأعمال» بدلاً من «الأمن» بالمعنى الضيق لتعريف الأمن ومفهومه، وعمل منذ منتصف الستينات على تشجيع الاستثمار الخارجي، وعلى وجه الخصوص الرأسمال الخليجي الذي كان محصوراً حينها في الأموال الكويتية، حيث عرفت الكويت، بخلاف ما يتوهم البعض، أول طفرة نفطية في منطقة الخليج العربي، سابقة بذلك دولاً أخرى تجاوزتها اليوم مثل قطر والسعودية.
نجحت دبي في تحقيق ذلك من خلال مجموعة من القرارات التي حولتها إلى سياسات ميدانية يمكن إيجاز الأهم بينها في النقاط التالية:
1. التفاعل الحي الإيجابي مع الاتجاهات الدولية المبدعة من خلال المؤسسات الاستشارية الدولية، حتى تحولت إمارة دبي إلى قبلة تؤمها الشركات الاستشارية الباحثة عن فرص جديدة وأسواق ناهضة. عزز من هذه المكانة تحديد دبي لدور متميز في المنطقة يقوم على التحول إلى نقطة اتصال وتواصل بين الأسواق العالمية بضفتيها الغربية الصناعية التي بلغت حد التشبع دفعها إلى البحث عن أسواق جديدة، وتلك الشرقية الناهضة المتعطشة لاستثمارات ناضجة وبين يديها خبرة غنية. أصبحت دبي بفضل ذلك منصة زواج بين من يعيش على الضفتين.
2. فرض حيادها على دول المنطقة في حال نشوب أي خلاف بينها، بما في ذلك الأكثر قرباً لها، كما شاهدنا في الخلاف الذي لايزال محتدماً بين دولة الإمارات وإيران. فالرساميل الإيرانية الهاربة من تسلط حكام طهران الحاليين، تجد طريقها المرصوفة الآمنة إلى مصارف دبي، بما فيها تلك الإسلامية، حتى أثناء وجود الخميني في السلطة هناك، حتى أصبحت دبي اليوم واجهة لقائمة أسماء إيرانية معروفة من أمثال رفسنجاني، وخاتمي، ومنتظري، جميعها دون أي استثناء متحاشية الرقابة المحلية الداخلية، ومتحايلة على المقاطعة الدولية. محصلة ذلك تدفق مستمر من تلك الأموال، بغض النظر عن المشكلات الفارسية - العربية المحتدمة بين ضفتي الخليج العربي.
3. الاستفادة من أية أزمة إقليمية، أو دولية، وتحويل أموالها إلى دبي. وأقرب دليل يؤكد هذه الظاهرة، ما شاهدناه إثر هبوب رياح ما أصبح يعرف باسم «الربيع العربي»، حيث تدفقت الأموال السائلة والمودعة من القاهرة وتونس وطرابلس الغرب إلى دبي، وهرع معها من استطاع الهرب من أصحابها. وعرفت دبي على امتداد العامين المنصرمين، انتعاشاً اقتصادياً، مصدره السيولة المالية التي تدفقت على أسواقها، في فترة كان الكساد الاقتصادي فيها يعم الأسواق العالمية، وتجتاح العالم أزمة اقتصادية بنيوية خانقة. تحولت دبي، وبقرار ناضج مسبق إلى ملاذ هادئ للأفراد الهاربين من القوى الجديدة في تلك البلدان، ومكان آمن لأموالهم، التي نجحوا في تهريبها. وقد سبق العرب إلى دبي الكثير من الرساميل الروسية التي كانت تبحث عن أسواق واعدة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، ولهث البرجوازية الروسية عن موطئ قدم جديد لها في الأسواق العالمية.
4. التنوع في أشكال الخدمات، والتعدد في طبيعة المنتجات، فلم تعد دبي مجرد سوق عقارية، ولم تكتف بالوقوف عند أرصفة موانئ التصدير وإعادة التصدير، بل ولجت، وبقوة، قطاعات أخرى من أبرزها قطاعات صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات، حتى باتت دبي اليوم أحد أهم مراكز الخدمات التي تقدمها صناعات هذا القطاع. تزاوج ذلك مع مواصفات سياحية دولية استقطبت السواح من مختلف أصقاع العالم. أدى ذلك إلى قدرة دبي على الخروج من الأزمات التي ألمت بها، في فترات قصيرة نسبياً، وبأقل الخسائر الممكنة، بما فيها تداعيات الأزمة المالية العالمية، التي مست صلب اقتصادات المنطقة، وكانت دبي أول من خرج منها، وبأقل الأضرار المتوقعة.
كل ذلك لا يعني أن دبي خالية من المشكلات، لكنها طبيعية وتعبر عن المشكلات التي لا يمكن أن يخلو منها أي اقتصاد معافى، كما لا ينبغي أن يقود ذلك إلى أن دبي لن تكون تحت رادارات الكثير من الاحتكارات، بل وحتى الدول المنافسة، بما فيها بعض الدول ذات الاقتصادات الكبيرة، التي من مصلحتها المباشرة الحد من سرعة نمو الظاهرة «الدبوية»، وتحجيم حيزها. ومن هنا فمن الطبيعي أن تشهد دبي بعض الانتكاسات أو التراجعات التي لا بد لها من معالجتها بشكل ناضج، بعيد عن غرور البداوة أو تنطحات التخلف، إن هي شاءت أن تحافظ على القدرة على صناعة المستقبل بدلاً من توقعه، فالمستقبل، كما يقول محمد بن راشد «لا ينتظر المترددين».
تجربة دبي لا تحث على الانبهار، لكنها تدعو إلى التمعن وتجبر من يتابعها عن قرب على قراءة خطواتها بشيء من التروي البعيد، كما قلت عن الانشداه الساذج والمتحاشي للغيرة أو الحسد. فإمارة دبي بسكانها الذين لا يتجاوز عدد الأصليين منهم حفنة من مئات الآلاف من البشر، ودخل سنوي لا تتجاوز حصة البترول الخام فيه 7.0%، تختلف عن أخواتها من الإمارات الست الأخرى من حيث القدرة على النمو بالمعنى الاقتصادي للكلمة. ولا يعود ما تحققه اليوم إمارة دبي من إنجازات لقدرات «سو برمانية» يتمتع بها محمد بن راشد، أو حتى والده المرحوم راشد بن سعيد؛ بل هي في حقيقة الأمر محصلة تزاوج ظروف إقليمية محيطة سوية مع قرارات دولية متزامنة، وقيادة محلية رائدة، أدت جميعها إلى تفرد دبي في خطواتها وثباتها على الطريق التي أوصلتها إلى المركز الذي تتبوأه اليوم، والذي جعلها قبلة سياحية دولية ومحط أنظار الاستثمارات العالمية.
ليس هناك من ينكر أن أحد أسباب هذه «النهضة الدبوية» تعود في جذورها إلى قرار بريطاني في أواخر الستينات من القرن الماضي الباحث عن مركز لحركة تهريب مواد خام الأحجار الكريمة من ذهب وألماس من بعض الدول الأفريقية مثل جنوب أفريقيا والآسيوية مثل الهند إلى أوروبا، وكانت دبي حينها، وباتفاق ضمني غير مكتوب، الوحيدة من سائر دول المنطقة التي لم ترفض العرض البريطاني دون أن تترك الأمور سائبة، بل تم ذلك تحت مراقبتها الدقيقة ومتابعتها المستمرة لتلك الحركة كي تتمكن من التحكم في آلياتها متى ما اقتضت الحاجة ذلك.
وبالقدر ذاته ليس هناك من في وسعه نفي سعة الأفق التي كان يمتلكها راشد بن سعيد بن مكتوم، الذي أعطى الأسبقية في أولويات الإمارة الفقيرة حينها إلى «التجارة والأعمال» بدلاً من «الأمن» بالمعنى الضيق لتعريف الأمن ومفهومه، وعمل منذ منتصف الستينات على تشجيع الاستثمار الخارجي، وعلى وجه الخصوص الرأسمال الخليجي الذي كان محصوراً حينها في الأموال الكويتية، حيث عرفت الكويت، بخلاف ما يتوهم البعض، أول طفرة نفطية في منطقة الخليج العربي، سابقة بذلك دولاً أخرى تجاوزتها اليوم مثل قطر والسعودية.
نجحت دبي في تحقيق ذلك من خلال مجموعة من القرارات التي حولتها إلى سياسات ميدانية يمكن إيجاز الأهم بينها في النقاط التالية:
1. التفاعل الحي الإيجابي مع الاتجاهات الدولية المبدعة من خلال المؤسسات الاستشارية الدولية، حتى تحولت إمارة دبي إلى قبلة تؤمها الشركات الاستشارية الباحثة عن فرص جديدة وأسواق ناهضة. عزز من هذه المكانة تحديد دبي لدور متميز في المنطقة يقوم على التحول إلى نقطة اتصال وتواصل بين الأسواق العالمية بضفتيها الغربية الصناعية التي بلغت حد التشبع دفعها إلى البحث عن أسواق جديدة، وتلك الشرقية الناهضة المتعطشة لاستثمارات ناضجة وبين يديها خبرة غنية. أصبحت دبي بفضل ذلك منصة زواج بين من يعيش على الضفتين.
2. فرض حيادها على دول المنطقة في حال نشوب أي خلاف بينها، بما في ذلك الأكثر قرباً لها، كما شاهدنا في الخلاف الذي لايزال محتدماً بين دولة الإمارات وإيران. فالرساميل الإيرانية الهاربة من تسلط حكام طهران الحاليين، تجد طريقها المرصوفة الآمنة إلى مصارف دبي، بما فيها تلك الإسلامية، حتى أثناء وجود الخميني في السلطة هناك، حتى أصبحت دبي اليوم واجهة لقائمة أسماء إيرانية معروفة من أمثال رفسنجاني، وخاتمي، ومنتظري، جميعها دون أي استثناء متحاشية الرقابة المحلية الداخلية، ومتحايلة على المقاطعة الدولية. محصلة ذلك تدفق مستمر من تلك الأموال، بغض النظر عن المشكلات الفارسية - العربية المحتدمة بين ضفتي الخليج العربي.
3. الاستفادة من أية أزمة إقليمية، أو دولية، وتحويل أموالها إلى دبي. وأقرب دليل يؤكد هذه الظاهرة، ما شاهدناه إثر هبوب رياح ما أصبح يعرف باسم «الربيع العربي»، حيث تدفقت الأموال السائلة والمودعة من القاهرة وتونس وطرابلس الغرب إلى دبي، وهرع معها من استطاع الهرب من أصحابها. وعرفت دبي على امتداد العامين المنصرمين، انتعاشاً اقتصادياً، مصدره السيولة المالية التي تدفقت على أسواقها، في فترة كان الكساد الاقتصادي فيها يعم الأسواق العالمية، وتجتاح العالم أزمة اقتصادية بنيوية خانقة. تحولت دبي، وبقرار ناضج مسبق إلى ملاذ هادئ للأفراد الهاربين من القوى الجديدة في تلك البلدان، ومكان آمن لأموالهم، التي نجحوا في تهريبها. وقد سبق العرب إلى دبي الكثير من الرساميل الروسية التي كانت تبحث عن أسواق واعدة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، ولهث البرجوازية الروسية عن موطئ قدم جديد لها في الأسواق العالمية.
4. التنوع في أشكال الخدمات، والتعدد في طبيعة المنتجات، فلم تعد دبي مجرد سوق عقارية، ولم تكتف بالوقوف عند أرصفة موانئ التصدير وإعادة التصدير، بل ولجت، وبقوة، قطاعات أخرى من أبرزها قطاعات صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات، حتى باتت دبي اليوم أحد أهم مراكز الخدمات التي تقدمها صناعات هذا القطاع. تزاوج ذلك مع مواصفات سياحية دولية استقطبت السواح من مختلف أصقاع العالم. أدى ذلك إلى قدرة دبي على الخروج من الأزمات التي ألمت بها، في فترات قصيرة نسبياً، وبأقل الخسائر الممكنة، بما فيها تداعيات الأزمة المالية العالمية، التي مست صلب اقتصادات المنطقة، وكانت دبي أول من خرج منها، وبأقل الأضرار المتوقعة.
كل ذلك لا يعني أن دبي خالية من المشكلات، لكنها طبيعية وتعبر عن المشكلات التي لا يمكن أن يخلو منها أي اقتصاد معافى، كما لا ينبغي أن يقود ذلك إلى أن دبي لن تكون تحت رادارات الكثير من الاحتكارات، بل وحتى الدول المنافسة، بما فيها بعض الدول ذات الاقتصادات الكبيرة، التي من مصلحتها المباشرة الحد من سرعة نمو الظاهرة «الدبوية»، وتحجيم حيزها. ومن هنا فمن الطبيعي أن تشهد دبي بعض الانتكاسات أو التراجعات التي لا بد لها من معالجتها بشكل ناضج، بعيد عن غرور البداوة أو تنطحات التخلف، إن هي شاءت أن تحافظ على القدرة على صناعة المستقبل بدلاً من توقعه، فالمستقبل، كما يقول محمد بن راشد «لا ينتظر المترددين».