نجحت إيران منذ إسقاط الشاه ودخول طهران في مواجهات سياسية تخللتها بعض الصدامات العسكرية (تحطم الطائرات الأمريكية التي أرسلتها واشنطن أبان أزمة احتلال السفارة الأمريكية في طهران)، أن تشكل جبهة داخلية قوية قادرة على مواجهة الضغوط الغربية، مستفيدة في تلك الفترة من بقايا مرحلة الحرب الباردة، وفي فترة لاحقة من تعثر خطوات السياسة الخارجية الأمريكية، جراء الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي عصفت بأوضاعها الاقتصادية الداخلية، وانعكست على حضورها، ومن ثم تأثيرها على مسار النفوذ الأمريكي الخارجي والتحالفات الضرورية المطلوب توفرها، لإبقاء اليد الطولى للولايات المتحدة نافذة للتحكم في ذلك المسار، بما يخدم مصالحها، ويؤمن تفوقها.

نجحت بكين، ومنذ ذلك الحين التي بدأ حضورها الدولي، بعد الإصلاحات الاقتصادية الدولية، يشهد نمواً ملحوظاً توجته بتشكيل ما أصبح يعرف اليوم بالسوق الناهضة المكونة من دول مجموعة «بريكس» (BRICS)، في تعزيز علاقاتها الاقتصادية، ومن ثم السياسية مع طهران. مقابل ذلك، وفي نطاق سعي هذه الأخيرة لفك الحصار الدولي الفروض حولها، والذي قادته واشنطن تحت راية محاربة «الملف النووي الإيراني»، بماء علاقات مميزة مع الدول ذات المصالح المتضاربة مع واشنطن. تولد عن ذلك علاقات مميزة بين الصين وإيران، تبلورت في مجالات كثيرة، لعل أبرزها، والأهم من بينها ذلك النمو المضطرد في حجم التبادل التجاري بين البلدين، الذي بلغ في العام 2006 ما يربو على 11 مليار يورو، ويرتفع في العام 2010 ليصل، وحسب تصريحات رئيس الغرفة التجارية المشركة بين الدوليتين، إلى أكثر من 30 مليار دولار، ويرتفع مرة أخرى إلى 45 مليار دولار في العام 2011، كي تصبح الصين اليوم، أكبر شريك تجاري لإيران.

على المستوى السياسي، وإذا ما تحاشينا الغوص في التاريخ القديم للعلاقات السياسية بين البلدين والتي تعود بجذورها، إلى تلك العلاقات التجارية المميزة التي بنتها الصين « مع مملكتي البارثيين والساسانيين في إيران ولعب طريق الحرير، الذي يمر عبر إيران واصلاً إلى الصين، دوراً أساسياً في ازدهار العلاقات التجارية والثقافية بينهما وخلق روابط متشابكة من المصالح الاقتصادية والاستراتيجية طوال قرون خلت»، ففي وسعنا الانطلاق من اعتراف الصين «بحركة تأميم النفط الإيراني التي قادها الزعيم الوطني الإيراني محمد مصدق في الفترة من 1951 إلى 1953 وبدأت صادرات النفط الإيرانية في التدفق على الصين في الستينات من القرن الماضي، ولم يشذ الشاه السابق كثيراً عن التصورات الإيرانية القومية، إذ حاول باستمرار توسيع هامش المناورة الدولية لبلاده عبر تعميق العلاقات مع الصين، واعترافه في العام 1971 بجمهورية الصين الشعبية ممثلاً وحيداً للصين، وأتبع ذلك بإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها». هذا لا يعني أن طريق تلك العلاقات كان خالياً من بعض المطبات مثل تلك التي وترت من تلك العلاقاة، كتلك التي برزت عندما «دعمت الصين موقف واشنطن، عند احتلال السفارة الأمريكية في طهران 1979، باعتباره عملاً ينتهك القانون الدولي. وصوتت بكين في مجلس الأمن لمصلحة القرار الذي يطالب بإطلاق الرهائن فوراً، لكنها امتنعت وقتذاك عن التصويت على مشروع القرار الذي ارتأى فرض عقوبات اقتصادية على طهران».

هذه الخلفية التاريخية الاقتصادية – السياسية، لا بد أن تكون حاضرة في أذهاننا ونحن نقرأ خبراً، نقلته وكالة رويترز يشير إلى «رفض مصفاة شركة سينوبك الصينية عرضاً بنفط رخيص الثمن من إيران و(عزمها على) تخفيض وارداتها بمقدار الخمس هذا العام (2012). كما أوردت رويترز، وهذا هو الأكثر دلالة ، نقلاً عن «مسؤول رفيع في صناعة النفط الصينية قوله إن العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية أهم من النفط الرخيص، (مضيفاً) طالما احتاجت الصين لحل هذه المشكلة ستجد طريقة، ولن يكون الأمر صعباً ونحن قادرون على حلها».

مما يضاعف من وقع هذا التحول في الموقف الصيني على طهران، هو إعلان كوريا الجنوبية، وهو أحد المستوردين المهمين للنفط الإيراني عن عزمها على « التوقف عن استيراد النفط الايراني الشهر المقبل ( يوليو2012). ترافق ذلك مع تراجع الواردات النفطية التركية من إيران إثر محادثاتها الأخيرة محادثات مع السعودية من أجل «التعاقد على شحنات نفطية طويلة الأمد».

إذا قرأنا التحول في الموقف الصيني، مع الإغراق الذي يمكن أن تشهده السوق النفطية بعد عودة النفط الليبي إلى مستوى قريب من مستواه الطبيعي، بعد عودة الأمور إلى مجاريها هناك، والزيادة التي ضختها السعودية والتي بلغت 467 ألف إضافي في اليوم في العام 2011، وزيادة أخرى قدرت بحوالى مائة أف برميل في مايو 2012، والزيادة المتوقعة من النفط العراقي، بعد التحسينات في آبار الإنتاج، ومرافئ التصدير كي تسفر عن « قفزة بلغت نسبتها 20 بالمئة في صادرات هذا العام التي وصلت إلى ما يقارب 5.2 مليون برميل في اليوم، الأمر الذي يجعل العراق واحداً من أهم المنتجين الرئيسيين في أوبك لأول مرّة منذ عقود». كل ذلك، سوية مع الإكتشافات النفطية الصينية في دارفور، يجعل يد الصين أكثر حرية عند تحديد العلاقات القائمة، بينها وبين إيران والمسار المتوقع لها مستقبلاً.

بشكل سريع، وربما مبسط، يقود هذا التحول في الموقف الصيني، إلى إضافة رقم سلبي في معادلات موازين القوى في الشرق الأوسط، أو بالأحرى، هذا من شأنه أن يضعف الحضور الإيراني في معادلة هذه المنطقة في المستقبل المنظور، مأخوذاً بعين الاعتبار تفاعل هذا التحول مع التغييرات، التي لن تكون لصالح الطرف الإيراني فيها والمتمثلة، في ضعف، إن لم يكن سقوط النظام السوري، الذي حتى في حال قدرته على الصمود، فمن الطبيعي أن يفقد نسبة عالية من قوته التي كان يتمتع بها قبل اندلاع الأزمة الأخيرة التي توشك أن تودي به. كذلك التحولات المتوقعة من نتائج الإنخابات الرئاسية المصرية، التي ستحاول، بغض النظر عن من يفوز فيها، أن تعيد ترتيب بيتها الداخلي أولاً، وتتطلع نحو بعدها العربي ثانياً، قبل أن تتحول نحو دول مثل إيران. ومن الطبيعي أن تجد مصر، في ظل توتر العلاقات الإيرانية – الخليجية، الناجمة عن الزيارات المتكررة التي قام بها مؤخراً عدد من المسؤولين الإيرانيين، من بينهم الرئيس أحمد نجاد، والتصريحات الاستفزازية للطرف العربي التي تخللتها، وفي ضوء التحول الإيجابي لصالح الكتلة العربية على حساب السياسة الإيرانية، في السياسة الخارجية الغربية، بما في ذلك واشنطن، الطريق نحو الرياض ومن خلفها العواصم الخليجية النفطية الأخرى، أكثر إغراءً، بل وأماناً، من ذلك الذي يأخدها إلى طهران.

يرى البعض أن توقيت الصين في الإفصاح عن موقفها، ربما يكون بمثابة بث رسالة لإيران كي تعيد النظر في مشروعها الشرق الأوسطي، المرتكز أساساً على بناء قوة عسكرية تقوم على امتلاك التقنيات النووية، إن هي أرادت أن يكون لها دور مقبول في خارطة الشرق الأوسط الجديد، والتي لن تكون بكين بعيدة عن رسم معالمها. والسؤال هنا هل تقرأ طهران الرسالة بشكل صحيح، وتعيد حساباتها في ضوء تلك المستجدات، أم تصر على السير في مخططاتها القديمة، وتسير في طريق نهاياتها غير محددة، وعواقبها ربما تكون وخيمة على إيران ذاتها، ومن ثم سلبية على مشروعاته في المنطقة؟ والأهم من ذلك هل تسمح لها أوضاعها الداخلية بالقيام بمثل هذه الالتفافة الفورية بسلام ودون أي اضطرابات؟

هذه التساؤلات الناجمة عنة تلك التحولات تضع إيران أمام مفترق طرق خطير بحاجة إلى عين خبيرة تقرأ بحصافة، وجرأة سياسية تحسن الاختيار، وتؤمن حماية النظام الذي سيقدم عليه.