نستكمل الجزء الثاني من حديثنا عن مشاركة الرئيس المصري محمد مرسي في قمة “عدم الانحياز” التي عقدت مؤخراً بطهران، ونشير هنا إلى مجموعة من الملاحظات ذات الطبيعة المنهجية والعامة دون الدخول في التفاصيل حول نتائج القمة وتتمثل هذه الملاحظات في النقاط التالية:
الأولى: إنني كنت أتمنى أن يستفيد المجتمعون في قمة طهران من الأفكار التي سبق وعبرت عنها الحركة ويكونوا أكثر عقلانية واتزاناً ولكن للأسف لم يحدث ذلك. فكرروا المواقف التقليدية بوجه عام.
الثانية: إن إيران كسبت سياسياً من عقد المؤتمر وساعدها ذلك على إرسال رسالة واضحة للولايات المتحدة بأنها ليست منعزلة تماماً بل لها خيوط مع دول عديدة. وإنه ليس من السهل تهميشها.
الثالثة: إن حضور الدول الأعضاء في الحركة ليس معارضة لسياسة الولايات المتحدة، وليس تأييداً لسياسة إيران، وإنما إيماناً بأن الحركة مازال لها بعض المصداقية، ولكن هذا الإيمان ليس كاملاً، لأن الحركة فقدت الكثير من مصداقيتها ودورها عبر السنين الماضية، لضعف دولها، ولانتهاء الاستقطاب الدولي، ولهيمنة القطب الواحد، وإن كانت القوى الكبرى الأخرى مثل روسيا أو الصين تحاول أن ترفض هذه الهيمنة وتدعو إلى عالم متعدد الأقطاب مازال في مرحلة جنينية.
الرابعة: تتعلق بأسلوب المداولات واعتماد النتائج، حيث لوحظ أن إيران انتهجت نفس المنهج الكوبي في عام 1979 بتأخير إصدار بعض الوثائق المهمة، ثم اعتمادها في اللحظة الأخيرة، دون أن يتم مناقشتها في لجنة الصياغة أو في أية مداولات حقيقية، ونشير هنا إلى الوثيقة المسماة إعلان طهران. بالطبع هذا أسلوب غير ديمقراطي بدأ في “قمة هافانا” عام 1979 ثم اتبعته بعض الدول التي أطلقت على نفسها الدول الثورية بهدف تمرير أفكار وآراء لا توافق عليها دول أخرى في الحركة، مستفيدة من تكتيك التوقيت الزمني سواء في غياهب الليل الطويل بعد تعب الوفود، كما حدث في “قمة هافانا” المشار إليها أو في اللحظات الأخيرة حيث تستعد الوفود للمغادرة فيطرح رئيس المؤتمر الإعلان الذي عادة يطلق عليه اسم العاصمة التي يعقد فيها المؤتمر، وهذا ما حدث في “قمة طهران”، وإن لم تكن القمة الوحيدة أو الأولى التي يحدث فيها ذلك. كذلك الشكوك التي أحاطت بموضوع إنشاء أمانة عامة دائمة للمؤتمر أو حتى الادعاء بأن وثائق المؤتمر تمت الموافقة عليها بالإجماع ودون تحفظ، والصحيح أن الموافقة كانت بتوافق الآراء، أي دون اعتراض جوهري وقوي من أية دولة، وتلجأ الدول عادة لعدم الاعتراض ما لم تكن هناك قضية بالغة الأهمية تمسها أو لها موقف قوي منها، وتسمح بتبني الوثيقة أحياناً كثيرة مجاملة للدولة المضيفة، ثم ترسل تحفظاتها على كثير أو قليل من بنود الوثيقة بعد ذلك.
الخامسة: إن إيران تعرضت لثلاثة أنواع من المصداقية. الأول: بسبب الترجمة الخاطئة لما قاله الرئيس المصري محمد مرسي عن سوريا، وتزوير المترجم وتحريفه لما قاله. ووضع البحرين بدلاً من سوريا، وهذا يعكس العقل الباطن لمسؤولين في طهران، وأيضاً حدث نفس الشيء بدرجة أقل في ترجمة خطاب أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون سواء عند نقده لمواقف وتصريحات إيران ضد إسرائيل، أو مواقف إيران النووية، أو مواقف إيران السياسية في الأزمة السورية. الثاني: إن المشاركين من قادة الدول لم يتجاوزوا 30 دولة، أما باقي الدول فكانت على مستوى وزراء وهذا أدنى مستوى وصلت إليه أيه قمة من قمم عدم الانحياز منذ نشأتها. الثالث: ما تردد إعلامياً وغير مؤكد وثائقياً حول قرار بإنشاء أمانة دائمة للحركة، يكون مقرها طهران، وإن إيران بدأت إعداد أمانة مؤقتة تتحول لاحقاً إلى دائمة. وحسب معلوماتي من متابعة تاريخ الحركة منذ إنشائها أن معظم أعضاء الحركة يرفضون إنشاء أية هياكل إدارية أو تنظيمية، ويكتفون فقط بوجود مكتب التنسيق الذي يتم من خلال المندوبين الدائمين للدول الأعضاء في الأمم المتحدة بنيويورك، وما عدا ذلك فهو مرفوض، وهذا لا يعني عدم عقد اجتماعات في هذه الدولة أو تلك بل للحركة اجتماعات عديدة تتناول قضايا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، ولكن ليس هناك تنظيم هيكلي مؤسسي لأي منها، ويتم الاكتفاء بالاجتماعات وما ينتج عنها من بيانات أو وثائق أو إعلانات تعبر عن مواقفها.
وسبق أن طرحت دول عديدة عبر السنوات الخمسين الماضية للحركة إنشاء أمانة دائمة، ولكن هذا الطرح لم يلق أي قبول جماعي من الحركة، كما إن دول الحركة المسماة بالدول الثورية مثل كوبا عندما ترأست الحركة عام 1979 في “مؤتمر هافانا” اعترضت دول عديدة من الآباء المؤسسين للحركة على المواقف المتشددة التي تعبر عن سياسة كوبا كدولة، والسعي لجعلها سياسة للحركة، وكذلك عندما ترأستها دول أفريقية كانت تعيش في الحلم الثوري الذي ساد في السبعينات ولم يتمخض عنه شيء مثل النظام العالمي الجديد، والنظام الاقتصادي الدولي الجديد والنظام الإعلامي الجديد، وغيرها من الأفكار والأطروحات التي كانت تعبر عن رغبات بأكثر من تعبيرها عن حقائق أو أفكار قابلة للتحقيق.
ومن ثم فإن إيران بما تتمتع به من مزاوجة بين ثورية الرئيس محمود أحمدي نجاد، وبين الحسابات البرجماتية لسياسة “البازار الإيرانية التقليدية”، وسياسة حياكة السجاد، عليها أن تشق طريقاً أكثر واقعية لتكسب مصداقية لنفسها ولرئاستها للحركة، في عصر يعيش متغيرات كبيرة، وتراجع فيه الفكر الثوري المقاوم إذا جاز مثل هذا التعبير، فروسيا والصين ينتهجان سياسة واقعية، وكذلك القوى المهمة في عدم الانحياز مثل الهند العضو المؤسس، أو البرازيل العضو المراقب أو جنوب أفريقيا، وبالتأكيد مصر رغم “ثورة 25 يناير”، فإن سياستها الخارجية تتسم بالواقعية كما تجلى ذلك في تصريحات وخطب الرئيس محمد مرسي منذ فوزه في الانتخابات.
السؤال الذي يطرح نفسه في ختام هذه الدراسة هو: أي السبل سوف تسلك إيران في فترة رئاستها للحركة؟ أي خلال السنوات الثلاث القادمة، هل ستقوم بدور نشط وتدعو إلى عقد العديد من الاجتماعات واتخاذ مواقف متشددة بغض النظر عن مدى واقعيتها السياسية أو قابليتها للتنفيذ، كما حدث في رئاسات سابقة؟ أم تنتهج موقفاً متوازناً ومعتدلاً دون أن تسعى لتحويل الحركة لأداة من أدوات الدعاية للسياسة الإيرانية، بعد أن حققت بالفعل ما تصبو إليه من عقد المؤتمر، وحصولها على رئاسة الحركة لأول مرة في تاريخها. بالتأكيد هذا ما سوف تظهره الأيام أو الفترة القادمة، وإن كانت بعض المؤشرات تشير إلى الاحتمال الأول أي الحركة النشطة للرئاسة لإثبات الوجود بغض النظر عن النتائج.
^ باحث في الشؤون الاستراتيجية الدولية