كلما قرأت مقالة في صحيفة أجنبية عن سوريا، طرح نفسه علي سؤال ملح: ماذا يعرف كاتبه عن بلادي ومشكلاتها؟! وهل قدم صورة عن واقعها تفيد قراء مقالته أو دراسته أو بحثه، وتضع يدهم كلياً أو جزئياً على بعض حقائقها؟
عموماً، يرسم عقل غربي سائد في الصحافة والإعلام صورة عن سوريا تجعل منها مجموعة طوائف وأقليات متنافسة متصارعة، تعيش في حال من توتر متفجر لا تبقيه كامناً غير يد السلطة المركزية القوية، التي تحفظ السلم الأهلي وتعمل لخلق مجتمع مندمج يجسد قيامه تقدماً كبيراً بالنسبة إلى المجتمع الحالي، المجزأ والمفكك والقابل للتشظي في أي وقت، إن هي غابت عنه أو ضعفت.
هذه الصورة الخاطئة من ألفها إلى يائها، الآتية من تاريخ استعماري استشراقي قديم، تترتب عليها نتيجتان مهمتان في تحديد نظرة الصحافة إلى سوريا، هما:
ليس مجتمعنا مجتمعاً واحداً متماسكاً ومندمجاً، وبالتالي لا تتوفر له سمات المجتمع الحقيقي، بل هو تراصف جماعات وجمعات بعضها قرب بعض، تتعايش، كما سبق القول، بأقل قدر ممكن من التفاهم، وتتباعد إحداها عن الأخريات بمرور الوقت بدل أن تتقارب معها وتنصهر فيها وتؤسس بالتضافر معها جماعة وطنية واحدة. هذا «المجتمع» الهش لا يستطيع أن يكون حامل حداثة وتقدم، إلا إذا تم تنظيم علاقاته على أسس تقر بحقوق ووجود أقلياته، وتجعل منه جسما لا بد أن تتقاطع روابطه عند مصالحه التي يجب أن تتنامى على أرضية تجعل منها مصالح متقاربة أو مشتركة. وبما أن هذه الأرضية ليست قائمة بعد، فإن إقامتها رهن بالنتيجة الثانية، التي تتجلى إما في وجود دولة مركزية قوية اليد ترغم هذا الشتات من الجماعات والمصالح المتنافرة على العيش المشترك أو على التظاهر بقبوله، التي تنميه بصورة متوازنة تمكنه من إقامة أرضيات عامة موحدة أو متقاربة تحكم حركته وتضبط أهواءه ورغباته، أو إقامة إدارة لا مركزية تتيح لمكوناته، أي لأقلياته، التفاعل بعضها مع بعض انطلاقاً من أسس مشتركة، مهما كانت جزئية، يقود تقاطعها وتكاملها إلى تقاربها ودخولها في أشكال من الاندماج تحولها تدريجياً إلى وحدات متآلفة متناغمة، وإن لم تمثل بعد مجتمعاً موحداً ومتناغماً. في حال وجود الدولة من النمط الأول، لابد من يد قوية وسلطة مركزية صارمة يرتبط بهما ليس فقط بقاء الأقليات متعايشة، بل كذلك مجمل سيرورة تطورها نحو التآلف والتناغم، وتالياً نحو مجتمعية متداخلة الحدود. أما في الحال الثانية، فتكون الأقليات نفسها لا السلطة التي تسوسها حامل تقدمها وتقاربها المتناغم، فلا ضرورة لأن تكون سلطتها القائمة قوية أو مركزية، ولا بد أن تكون علاقات الجماعات البينية أساساً وأرضية ما لا بد أن يقوم بينها وحدة في المصالح والروابط.
في عودة إلى ما تكتبه الصحافة عن مجتمعنا السوري، هناك إعجاب بالدولة قوية اليد، التي نسميها نحن «الاستبدادية»، والتي تعتبر ضامن وحدة وتقدم مجتمعنا، وبالتالي حامل الحداثة والسلام الأهلي والقيم الحديثة، بما في ذلك العلمانية. لكنه توجد اليوم دعوة دولية إلى إحلال النموذج الثاني محلها، بعد فشلها وسقوطها الذي يبدو وشيكاً في سوريا، دعوة تعبر عن نفسها في سعي غربي إلى إقامة فيدرالية أقليات في سوريا تزيح نمط الدولة المركزية، بما في ذلك النموذج الديمقراطي والتشاركي، الذي لا تريد بعض دول الغرب إقامته في سوريا، على الرغم من علمها باستحالة وجود حل حقيقي لمشكلة الأقليات غير الديمقراطية، كنظام يقوم على أعلى قدر ممكن من الدولة وأعظم حضور ممكن للمجتمع، على دولة هي حاضنة مجتمع يشارك في تقرير شؤونها ويكون حاملها السياسي.
هل صحيح أن مجتمع سوريا ليس موحداً، وأنها تجمع أقليات تتعايش في أجواء من التوتر القابل للانفجار في أي وقت، وأن ما يجري فيها اليوم هو النتاج الطبيعي والحتمي لهذا الواقع؟ وهل صحيح أنه لا يمكن قراءة أحداثها خارج هذا الإطار، لأنه هو الذي تسبب فيها؟ وهل من الصحيح أخيرا القول أو الاعتقاد بأنه لا توجد وطنية سورية جامعة تخترق سائر مكونات شعبها المجتمعية والسياسية، وأنها كانت مؤهلة للانفراط والتفكك ككيان موحد لولا يد الاستبداد التي حفظت وحدتها الإجبارية، ولا بد أن تسمح الثورة الحالية لها بالتخلص منها وبإعادة تأسيسها على الواقع الحقيقي الوحيد القائم فيها: واقع كونها بلد أقليات سترفض أن تتعايش، بعد اليوم، مع غياب اليد القوية عنها، إلا في إطار كونفيدرالي رخو؟
لا أظن أنه يمكن الرد بالإيجاب على أي واحد من هذه الأسئلة. ليست سوريا تجمع طوائف. وليست أقلياتها متصارعة مع أغلبيتها أو ضد بعضها. وليست أزمتها الحالية ابنة تنافر وتصارع مكوناتها التي قررت أن لا تعيش في إطار وطني جامع. وليس حل مشكلتها مع الاستبداد كامناً في تفكيك دولتها وبناء نظام ينطلق من الأقليات ويعتبرها قوة تحمل دينامية تجديدية من طراز حداثي، أقله لأنها تفتقر تماما إلى هذه القدرة، ولم يسبق لها أن مارست أدواراً مستقلة، ولأنه سبق لها أن رفضت ممارسة أدوار كهذه خلال حقبة الانتداب الفرنسي، كما رفضت أن تؤلف دولة فيدرالية أو كونفدرالية تنهض على التحالف فيما بينها.
لا تتعارض اللامركزية مع نظام ديمقراطي محوره دولة تقوم على مشاركة تتخطى مشكلة الأقليات بالمواطنة، وبما تؤسسه من مساواة بين جميع مواطنيها بغض النظر عن جنسهم ولونهم ومذهبهم. ولن تكون دولة الأقليات ديمقراطية لأنها لن تكون دولة مواطنة ومساواة وعدالة بأي معنى وطني وجامع، ولن تنجو من التمييز بين أتباع الأقليات، الذي ينسف الديمقراطية من أساسها.
أما ما يقدمه كتاب مقالات الصحافة، فليس غالباً غير ترهات استشراقية يعممونها على مجتمعاتنا، يتوهمون أن فيها مفاتيح وأسرار وجودنا، وأنها تمدهم بمداخل علمية إلى معرفة واقعنا، على الرغم من أنها ليست غير جملة أحكام مسبقة تتسم بالسذاجة والتبسيط، تصلح لتقديم عينات عن جهل من يكتبون في ضوئها، ولا تصلح بأي حال لتفسير أو لمقاربة ما تعيشه مجتمعاتنا.
لا عجب أنني كلما قرأت مقالة عن سوريا، بما في ذلك تلك التي يكتبها مراسلون ميدانيون، تساءلت بحيرة: هل هذه هي حقا سوريا؟! ولماذا يتعب كاتبها نفسه ويعرض حياته للأخطار ويذهب إلى بلادنا، ما دام يستطيع كتابة مادته من مقهى رصيف أو مطعم في بلده؟!
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية
عموماً، يرسم عقل غربي سائد في الصحافة والإعلام صورة عن سوريا تجعل منها مجموعة طوائف وأقليات متنافسة متصارعة، تعيش في حال من توتر متفجر لا تبقيه كامناً غير يد السلطة المركزية القوية، التي تحفظ السلم الأهلي وتعمل لخلق مجتمع مندمج يجسد قيامه تقدماً كبيراً بالنسبة إلى المجتمع الحالي، المجزأ والمفكك والقابل للتشظي في أي وقت، إن هي غابت عنه أو ضعفت.
هذه الصورة الخاطئة من ألفها إلى يائها، الآتية من تاريخ استعماري استشراقي قديم، تترتب عليها نتيجتان مهمتان في تحديد نظرة الصحافة إلى سوريا، هما:
ليس مجتمعنا مجتمعاً واحداً متماسكاً ومندمجاً، وبالتالي لا تتوفر له سمات المجتمع الحقيقي، بل هو تراصف جماعات وجمعات بعضها قرب بعض، تتعايش، كما سبق القول، بأقل قدر ممكن من التفاهم، وتتباعد إحداها عن الأخريات بمرور الوقت بدل أن تتقارب معها وتنصهر فيها وتؤسس بالتضافر معها جماعة وطنية واحدة. هذا «المجتمع» الهش لا يستطيع أن يكون حامل حداثة وتقدم، إلا إذا تم تنظيم علاقاته على أسس تقر بحقوق ووجود أقلياته، وتجعل منه جسما لا بد أن تتقاطع روابطه عند مصالحه التي يجب أن تتنامى على أرضية تجعل منها مصالح متقاربة أو مشتركة. وبما أن هذه الأرضية ليست قائمة بعد، فإن إقامتها رهن بالنتيجة الثانية، التي تتجلى إما في وجود دولة مركزية قوية اليد ترغم هذا الشتات من الجماعات والمصالح المتنافرة على العيش المشترك أو على التظاهر بقبوله، التي تنميه بصورة متوازنة تمكنه من إقامة أرضيات عامة موحدة أو متقاربة تحكم حركته وتضبط أهواءه ورغباته، أو إقامة إدارة لا مركزية تتيح لمكوناته، أي لأقلياته، التفاعل بعضها مع بعض انطلاقاً من أسس مشتركة، مهما كانت جزئية، يقود تقاطعها وتكاملها إلى تقاربها ودخولها في أشكال من الاندماج تحولها تدريجياً إلى وحدات متآلفة متناغمة، وإن لم تمثل بعد مجتمعاً موحداً ومتناغماً. في حال وجود الدولة من النمط الأول، لابد من يد قوية وسلطة مركزية صارمة يرتبط بهما ليس فقط بقاء الأقليات متعايشة، بل كذلك مجمل سيرورة تطورها نحو التآلف والتناغم، وتالياً نحو مجتمعية متداخلة الحدود. أما في الحال الثانية، فتكون الأقليات نفسها لا السلطة التي تسوسها حامل تقدمها وتقاربها المتناغم، فلا ضرورة لأن تكون سلطتها القائمة قوية أو مركزية، ولا بد أن تكون علاقات الجماعات البينية أساساً وأرضية ما لا بد أن يقوم بينها وحدة في المصالح والروابط.
في عودة إلى ما تكتبه الصحافة عن مجتمعنا السوري، هناك إعجاب بالدولة قوية اليد، التي نسميها نحن «الاستبدادية»، والتي تعتبر ضامن وحدة وتقدم مجتمعنا، وبالتالي حامل الحداثة والسلام الأهلي والقيم الحديثة، بما في ذلك العلمانية. لكنه توجد اليوم دعوة دولية إلى إحلال النموذج الثاني محلها، بعد فشلها وسقوطها الذي يبدو وشيكاً في سوريا، دعوة تعبر عن نفسها في سعي غربي إلى إقامة فيدرالية أقليات في سوريا تزيح نمط الدولة المركزية، بما في ذلك النموذج الديمقراطي والتشاركي، الذي لا تريد بعض دول الغرب إقامته في سوريا، على الرغم من علمها باستحالة وجود حل حقيقي لمشكلة الأقليات غير الديمقراطية، كنظام يقوم على أعلى قدر ممكن من الدولة وأعظم حضور ممكن للمجتمع، على دولة هي حاضنة مجتمع يشارك في تقرير شؤونها ويكون حاملها السياسي.
هل صحيح أن مجتمع سوريا ليس موحداً، وأنها تجمع أقليات تتعايش في أجواء من التوتر القابل للانفجار في أي وقت، وأن ما يجري فيها اليوم هو النتاج الطبيعي والحتمي لهذا الواقع؟ وهل صحيح أنه لا يمكن قراءة أحداثها خارج هذا الإطار، لأنه هو الذي تسبب فيها؟ وهل من الصحيح أخيرا القول أو الاعتقاد بأنه لا توجد وطنية سورية جامعة تخترق سائر مكونات شعبها المجتمعية والسياسية، وأنها كانت مؤهلة للانفراط والتفكك ككيان موحد لولا يد الاستبداد التي حفظت وحدتها الإجبارية، ولا بد أن تسمح الثورة الحالية لها بالتخلص منها وبإعادة تأسيسها على الواقع الحقيقي الوحيد القائم فيها: واقع كونها بلد أقليات سترفض أن تتعايش، بعد اليوم، مع غياب اليد القوية عنها، إلا في إطار كونفيدرالي رخو؟
لا أظن أنه يمكن الرد بالإيجاب على أي واحد من هذه الأسئلة. ليست سوريا تجمع طوائف. وليست أقلياتها متصارعة مع أغلبيتها أو ضد بعضها. وليست أزمتها الحالية ابنة تنافر وتصارع مكوناتها التي قررت أن لا تعيش في إطار وطني جامع. وليس حل مشكلتها مع الاستبداد كامناً في تفكيك دولتها وبناء نظام ينطلق من الأقليات ويعتبرها قوة تحمل دينامية تجديدية من طراز حداثي، أقله لأنها تفتقر تماما إلى هذه القدرة، ولم يسبق لها أن مارست أدواراً مستقلة، ولأنه سبق لها أن رفضت ممارسة أدوار كهذه خلال حقبة الانتداب الفرنسي، كما رفضت أن تؤلف دولة فيدرالية أو كونفدرالية تنهض على التحالف فيما بينها.
لا تتعارض اللامركزية مع نظام ديمقراطي محوره دولة تقوم على مشاركة تتخطى مشكلة الأقليات بالمواطنة، وبما تؤسسه من مساواة بين جميع مواطنيها بغض النظر عن جنسهم ولونهم ومذهبهم. ولن تكون دولة الأقليات ديمقراطية لأنها لن تكون دولة مواطنة ومساواة وعدالة بأي معنى وطني وجامع، ولن تنجو من التمييز بين أتباع الأقليات، الذي ينسف الديمقراطية من أساسها.
أما ما يقدمه كتاب مقالات الصحافة، فليس غالباً غير ترهات استشراقية يعممونها على مجتمعاتنا، يتوهمون أن فيها مفاتيح وأسرار وجودنا، وأنها تمدهم بمداخل علمية إلى معرفة واقعنا، على الرغم من أنها ليست غير جملة أحكام مسبقة تتسم بالسذاجة والتبسيط، تصلح لتقديم عينات عن جهل من يكتبون في ضوئها، ولا تصلح بأي حال لتفسير أو لمقاربة ما تعيشه مجتمعاتنا.
لا عجب أنني كلما قرأت مقالة عن سوريا، بما في ذلك تلك التي يكتبها مراسلون ميدانيون، تساءلت بحيرة: هل هذه هي حقا سوريا؟! ولماذا يتعب كاتبها نفسه ويعرض حياته للأخطار ويذهب إلى بلادنا، ما دام يستطيع كتابة مادته من مقهى رصيف أو مطعم في بلده؟!
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية