هناك مفهوم خاطئ لدى كثير من صناع القرار يقودهم لاتخاذ قرارات لا تفضي إلا لـ«شربكة” بلادهم وأنظمتهم في “متاهات” مضارها أكثر من نفعها، فقط ظناً بأن القيام بهذه الخطوات من شأنه أن يقدم أنظمتهم وبلدانهم أمام الرأي العالمي على أنها أنظمة متقدمة ديمقراطية متطورة.أعني بالخطوات تلك المرتبطة بـ«الهوس” الملاحظ بشأن المضي في توقيع الاتفاقات الدولية وبطريقة تكشف أن الفهم تجاه هذه الاتفاقات مرتبط بـ«الكم” لا “الكيف”.لو فحصنا الوضع في كثير من الدول العربية، والبحرين ليست بمعزل عنهم، سنجد أن عدد الاتفاقات الدولية الموقعة قد يفوق ما وقعته كثير من الدول الأجنبية المتقدمة ديمقراطياً، وكثير من قوى المجتمع الدولي.قلما نسمع بأن دولنا ترفض الدخول في اتفاقية دولية معينة، أو لديها تحفظات عليها، بل ما بات متعارف عليه بأننا نوقع على الفور بشأن أية اتفاقات دون إدراك بأنه ربما يأتي وقت تستخدم هذه الاتفاقات ضدنا بهدف فرض إرادة خارجية ساعية للتدخل في شؤون البلد الداخلية ولكن وفق ذريعة أننا موقعون على هذه الاتفاقية، بالعربي اتفاقات تكبل يديك حتى بشأن إجراءات داخلية هي حق من حقوقك كمحاربة الإرهاب الداخلي وفرض الأمن والاستقرار.توقيع هذا الكم من الاتفاقات لن يثبت للعالم أبداً بأن هذه الدولة أو تلك “مثال عظيم” للديمقراطية والحريات، بالتالي ليس “الكم” هنا هو المحك.أبسط الأمثلة هنا، طريقة تعامل الولايات المتحدة الأمريكية القوى العالمية العظمى وسيدة الديمقراطيات مع ظاهرة توقيع الاتفاقات، أو بالأصح “التشربك” بالاتفاقات. أليست واشنطن هي المنصبة نفسها بأنها راعية الديمقراطية وحامية السلام العالمي؟! بالتالي كيف نبرر رفض واشنطن لتوقيع اتفاقات دولية ذات مضامين سامية، مثل اتفاقية حظر القنابل العنقودية، واتفاقية حظر الألغام الأرضية، واتفاقات معنية بعقوبة الإعدام والسجون التي على إثرها طالبت كثير من الدول واشنطن في جلسة مراجعة حقوق الإنسان بجنيف قبل عامين أن توقع عليها وتغلق معتقل غوانتنامو، كذلك المعاهدة الأشهر ممثلة باتفاقية روما المعنية بقيام محكمة جنائية دولية وهي التي تعرضت لمعارضة أمريكية إسرائيلية شديدة وواضحة.كل دول العالم “الواثقة من نفسها” تتعامل مع هذه الاتفاقات حتى وإن كانت الأمم المتحدة “تستميت” لحث الدول على توقيعها، من منطلق “المصلحة”، إذ ما يخدمني كدولة ويفيدني أوقع عليه، وما يتعارض مع سياساتي أو يكبل صلاحياتي ويفرض التدخل الخارجي علي “أرفضه”، مثلما تفعل واشنطن وغيرها، ومثل هذه المواقف حق للدول، إذ من الجنون أن تأتي دولة لـ«تفقأ” عينها بأصابعها، أو تسلم رقبتها لآخرين، تتباين طرق تعاملهم معها، وتختلف نواياهم وأجنداتهم.المسألة ليست مرتبطة أبداً بعدالة وإنصاف، أو حقوق إنسان وغيرها، المسألة كلها معنية بإيجاد نوع من “الثغرات” التي تمكن أية جهة كانت من اختراق أي دولة تريد، بحيث تكون مصائر الدول وكأنها صنوف طعام على طاولة بوفيه ضخم.الآن يمكنكم ملاحظة حديث البعض من الانقلابيين في البحرين بشأن هذه المعاهدات والاتفاقات التي وقعت عليها الدولة، وأخذهم إياها كذرائع ومسوغات للطعن في أي إجراء للدولة هو حق أصيل من حقوقها في شأن تثبيت دعائم الأمن أو محاكمة الإرهابيين أو سحب الجنسيات أو أي إجراء آخر.هم يستندون على هذه الاتفاقات التي وقعتها الدولة، ويتحدثون من منطلق أن الدولة وقعت عليها، بالتالي يجب على الدولة “تعطيل القانون” لأن فيه بنوداً تتعارض مع الاتفاقية الدولية التي وقعت عليها دون “أن تضرب على يدها”.الآن البعض قد يسأل: هل الدولة لم تعرف ذلك حينما وقعت على مثل هذه الاتفاقات؟!الإجابة معنية بمعرفة هوية من اضطلع بدور “عراب” هذه الاتفاقات، وعليه استذكروا كم الاتفاقات والمعاهدات التي وقعتها الدولة بسبب تحركات أحد المعارضين السابقين الذين تم توليتهم منصباً وزارياً في الخارجية، وكيف كان تحركه محموماً لـ«شربكة” الدولة في هذه الاتفاقات.كل ما يحصل اليوم في البحرين معد له سلفاً، التخطيط للانقلاب على الدولة من داخل الدولة كان تكتيكاً جديداً انتهجته قوى التأزيم منذ أعلنت عزمها العمل من داخل الدولة، إما عبر مؤسساتها التشريعية، أو من خلال زج عناصرها بكل صيغة ممكنة في أجهزة الدولة.كانت المشكلة حينما تم التعامل مع هؤلاء بحسن النوايا، ومن خطط ومهد لتوقيع الاتفاقات واحدة تلو الأخرى، إذ فقط عليه تجهيز الأوراق ونحن نوقع، والفكرة بأنه كلما زاد عدد التواقيع زاد ارتقاؤنا في سلم الديمقراطية.هذه خرافة حقيقية، واسألوا الولايات المتحدة الأمريكية عن الاتفاقات التي رفضت التوقيع عليها وضربتها بعرض الحائط، إذ من الجنون أن تتنازل أي دولة عن حقها الأصيل في إدارة شؤونها الداخلية عبر توقيع اتفاقات بعضها وضع بهدف التدخل في شؤون الدول ليس إلا.