في أية بيئة استراتيجية توجد أشياء يمكن التنبؤ بها وأخرى محتملة، وثالثة ممكنة ورابعة مقبولة؛ لكن أغلب الأشياء يبقى مجهولاً. وفي مقاربة مشهد العلاقات الخليجية مع اليمن الشقيق يبرز أمر محير. فرغم أن صانع القرار السياسي في اليمن يحمل المبادرة الخليجية بيد ويتلمس طريقة للخروج بصنعاء من محنتها السياسية باليد الأخرى؛ فإن المجهول في البيئة الاستراتيجية اليمنية من منظور خليجي آخذ في الازدياد.
صحيح أن اليمن تكبلها السمات الأربع لسلوك البيئة الاستراتيجية؛ التقلب والتوجس والتعقيد والغموض، كما أوردها هاري آر. يارغر « Harry R. Yarger « في كتابه «الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي»، وصحيح أن التحولات السياسية الغريبة في اليمن حصدت بجدارة مسمى «الظاهرة اليمنية»؛ حيث يغيب الطاغية ويبقى كبار جماعته في مناصبهم. لكن ذلك لا يبرر غلبة المجهول وتراجع ما يمكن التنبؤ به.
إن فن الاستثمار الاستراتيجي من قبل الخليجيين، وهم الغائب الأكبر عن بلد جار وشقيق ومرهق مطلوب الآن أكثر من أية وقت مضى، خصوصاً بعد أن فكك اليمنيون خيام الثورة في الأسبوع الماضي كدليل على نهايتها. فمما يقلق أن ذئاباً إقليمية ودولية قد احتفلت بنهاية الثورة قبلنا، حيث رددت صدى عوائها سفوح جبل النبي شعيب أعلى قمة في جزيرة العرب. بينما نحن في سبات استراتيجي ننتظر رقاع الدعوة بحب غامر لليمنيين، رغم أن الضمير لا يحول أبداً دون ارتكاب الخطيئة. وربما لأن الاستراتيجية هي حساب الأهداف ضمن حدود مقبولة للمخاطرة لخلق نتائج أفضل مما كان لو تركت للمصادفة.
لذلك أيضاً فقد أدارت واشنطن تقربها للساحة اليمنية بحدود مقبولة للمخاطرة بأسلوب «التحكم عن بعد» سواء ضد القاعدة بالطائرات الموجهة بدون طيار أو ضد الإيرانيين بحرب الاستخبارات والعلاقات العامة وتشويه السمعة فقط عبر سفيرهم هناك، في حين قفز رجال طهران في خليج عدن وهم بكامل ملابسهم لخلق نتائج أفضل مما كان لو تركوها للمصادفة من خلال دعم المتمردين في الشمال والجنوب بقوارب أسلحة لم توقفها الاحتجاجات اليمنية المتكررة ولا صيحات سفير الولايات المتحدة الأمريكية بصنعاء جيرالد فيريستاين المتذمرة.
إن صياغة الاستراتيجية تجمع بين العلم والفن؛ فالجانب العلمي فيها يقدم منهجية منضبطة لوصف الدروب، أما جانب الفن فيها فيسمح للاستراتيجي بأن يرى طبيعة البيئة التي يدرسها بتحرر مطلق، فيحدد كما يشاء دروباً متعددة لبلوغ الهدف المنشود.
فالاستراتيجية كفن ساحة للعبقريات النادرة؛ حيث يتوصل القادة الموهوبون بفعل حدسهم لحلول عظيمة لقضايا معقدة، وبما أن الاستثمار هو استخدام ما نملك لإنتاج مكسب من الفرص السانحة بطرق مباشرةً أو غير مباشرة، فإن التعامل الخليجي مع اليمن الذي ينتمي معنا لنفس التاريخ والجغرافيا يتعدى الفرصة الاستثمارية والمضاربة ويصل بيسر إلى الضرورة الاستراتيجية. فهل السلبية الخليجية -باستثناء المبادرة- خطوة لخلق جو مناسب للاستثمار الاستراتيجي هناك؟ وهل من الحلول العظيمة إقامة حاجز لإغلاق الحدود مع اليمن فيمنع ذلك السور التهريب وتسلل المهاجرين غير الشرعيين والمخدرات؟
مع الأخذ بعين الاعتبار أننا لا نخشى القات بقدر ما نخشى القاعدة، وما السور إلا حلاً عملياً، في حين نحن في أشد الحاجة لمن يمارس الاستراتيجية كفن قادر على ألا تستمر اليمن في تسريب فكر القاعدة والحوثيين للجزيرة العربية عبر السور، كما تسرب إلينا منها فكر عبد الفتاح إسماعيل وزمرته من الماركسيين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
لقد أظهرت تقلبات الربيع العربي ودور دول مجلس التعاون فيه أن بها رجال فكر استراتيجي قادرين على التأثير في سلوك أطراف في بؤر ذلك الربيع بوسائل لم تتعد الحث والإقناع والاجتذاب؛ دون أن يملكوا من القوة الغاشمة إلا حاملة الطائرات «الجزيرة» والفرقاطة «العربية».
يذهب يارغر في كتابه «الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي» والموجه للمحترفين المتخصصين في الحقل الأمني والمشاركين في صياغة الاستراتيجية وتنفيذها وتقويمها، يذهب إلى أنه لا يمكن إنكار دور العبقري الحقيقي، لكن ليس هناك سوى دول قليلة في البيئة الحالية التي تتسم بالدينامية تستطيع تحمل عواقب الانتظار إلى حين وصول عبقري نعول عليه.
{{ article.visit_count }}
صحيح أن اليمن تكبلها السمات الأربع لسلوك البيئة الاستراتيجية؛ التقلب والتوجس والتعقيد والغموض، كما أوردها هاري آر. يارغر « Harry R. Yarger « في كتابه «الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي»، وصحيح أن التحولات السياسية الغريبة في اليمن حصدت بجدارة مسمى «الظاهرة اليمنية»؛ حيث يغيب الطاغية ويبقى كبار جماعته في مناصبهم. لكن ذلك لا يبرر غلبة المجهول وتراجع ما يمكن التنبؤ به.
إن فن الاستثمار الاستراتيجي من قبل الخليجيين، وهم الغائب الأكبر عن بلد جار وشقيق ومرهق مطلوب الآن أكثر من أية وقت مضى، خصوصاً بعد أن فكك اليمنيون خيام الثورة في الأسبوع الماضي كدليل على نهايتها. فمما يقلق أن ذئاباً إقليمية ودولية قد احتفلت بنهاية الثورة قبلنا، حيث رددت صدى عوائها سفوح جبل النبي شعيب أعلى قمة في جزيرة العرب. بينما نحن في سبات استراتيجي ننتظر رقاع الدعوة بحب غامر لليمنيين، رغم أن الضمير لا يحول أبداً دون ارتكاب الخطيئة. وربما لأن الاستراتيجية هي حساب الأهداف ضمن حدود مقبولة للمخاطرة لخلق نتائج أفضل مما كان لو تركت للمصادفة.
لذلك أيضاً فقد أدارت واشنطن تقربها للساحة اليمنية بحدود مقبولة للمخاطرة بأسلوب «التحكم عن بعد» سواء ضد القاعدة بالطائرات الموجهة بدون طيار أو ضد الإيرانيين بحرب الاستخبارات والعلاقات العامة وتشويه السمعة فقط عبر سفيرهم هناك، في حين قفز رجال طهران في خليج عدن وهم بكامل ملابسهم لخلق نتائج أفضل مما كان لو تركوها للمصادفة من خلال دعم المتمردين في الشمال والجنوب بقوارب أسلحة لم توقفها الاحتجاجات اليمنية المتكررة ولا صيحات سفير الولايات المتحدة الأمريكية بصنعاء جيرالد فيريستاين المتذمرة.
إن صياغة الاستراتيجية تجمع بين العلم والفن؛ فالجانب العلمي فيها يقدم منهجية منضبطة لوصف الدروب، أما جانب الفن فيها فيسمح للاستراتيجي بأن يرى طبيعة البيئة التي يدرسها بتحرر مطلق، فيحدد كما يشاء دروباً متعددة لبلوغ الهدف المنشود.
فالاستراتيجية كفن ساحة للعبقريات النادرة؛ حيث يتوصل القادة الموهوبون بفعل حدسهم لحلول عظيمة لقضايا معقدة، وبما أن الاستثمار هو استخدام ما نملك لإنتاج مكسب من الفرص السانحة بطرق مباشرةً أو غير مباشرة، فإن التعامل الخليجي مع اليمن الذي ينتمي معنا لنفس التاريخ والجغرافيا يتعدى الفرصة الاستثمارية والمضاربة ويصل بيسر إلى الضرورة الاستراتيجية. فهل السلبية الخليجية -باستثناء المبادرة- خطوة لخلق جو مناسب للاستثمار الاستراتيجي هناك؟ وهل من الحلول العظيمة إقامة حاجز لإغلاق الحدود مع اليمن فيمنع ذلك السور التهريب وتسلل المهاجرين غير الشرعيين والمخدرات؟
مع الأخذ بعين الاعتبار أننا لا نخشى القات بقدر ما نخشى القاعدة، وما السور إلا حلاً عملياً، في حين نحن في أشد الحاجة لمن يمارس الاستراتيجية كفن قادر على ألا تستمر اليمن في تسريب فكر القاعدة والحوثيين للجزيرة العربية عبر السور، كما تسرب إلينا منها فكر عبد الفتاح إسماعيل وزمرته من الماركسيين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
لقد أظهرت تقلبات الربيع العربي ودور دول مجلس التعاون فيه أن بها رجال فكر استراتيجي قادرين على التأثير في سلوك أطراف في بؤر ذلك الربيع بوسائل لم تتعد الحث والإقناع والاجتذاب؛ دون أن يملكوا من القوة الغاشمة إلا حاملة الطائرات «الجزيرة» والفرقاطة «العربية».
يذهب يارغر في كتابه «الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي» والموجه للمحترفين المتخصصين في الحقل الأمني والمشاركين في صياغة الاستراتيجية وتنفيذها وتقويمها، يذهب إلى أنه لا يمكن إنكار دور العبقري الحقيقي، لكن ليس هناك سوى دول قليلة في البيئة الحالية التي تتسم بالدينامية تستطيع تحمل عواقب الانتظار إلى حين وصول عبقري نعول عليه.