في ذكرى النكبة واغتصاب فلسطين نجدد القول والتوثيق؛ لقد بات الإسرائيليون اليوم بعد خمسة وستين عاماً على النكبة وقيام الدولة الصهيونية، يُجمعون من أقصى يسارهم إلى أقصى يمينهم على الرفض المطلق حتى لإمكانية مناقشة «حق العودة للاجئين الفلسطينيين»، معتبرين أن هذا الحق هو بداية نهاية «إسرائيل»، كما عبّر عن ذلك عدد من كبار ساستهم ومحلليهم مجمعين على: «أن حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم هو «نهاية الحلم الإسرائيلي ونهاية الدولة العبرية»، وأنه «لا يمكن قبول المطالب الفلسطينية بحق العودة» معتبرين أن «ليس ثمة يساري في «إسرائيل» يقبل بمطلب عودة الفلسطينيين». في حين يتماسك الفلسطينيون اليوم بالمقابل أكثر من أي وقت مضى على التمسك بالقضية والحقوق وفي مقدمتها حق العودة لملايين اللاجئين المشتتين الذين تقترف بحقهم عربياً المزيد والمزيد من النكبات والهجرات، معتبرين أن من أهم وأخطر الأسلحة في مواجهة بلدوزر التجريف والتهويد الصهيوني، هو سلاح الذاكرة الجمعية للشعب العربي الفلسطيني وللشعوب العربية معاً، لذلك يحرصون على توارث هذه الذاكرة الوطنية على مدار الأجيال، على عكس مراهنات المؤسسة الصهيونية المعروفة على فعالية عامل النسيان في طي وتلاشي واضمحلال هذه الذاكرة...!فحسب أحدث تقرير فلسطيني، فإن اللاجئين المخضرمين من «كبار السن» «يسابقون الزمن لايصال ما تبقى لهم من ديارهم المسلوبة حروفاً لأبنائهم وأحفادهم»، وذلك «رغم إيمانهم العميق بالعودة حتى لو آخر يوم في العمر، وكما يقول أبو محمد اللفتاوي: «أمي عاشت 107 سنوات، ورغم ذلك كانت قبل وفاتها تتصرف كأنها ستعود إلى لفتا يوم غد، كانت تقول لبناتي عندما نعود إلى لفتا ستخرجن إلى بيوت أزواجكن من بيت جدكن في وسط البلد»، والجدة ماتت قبل سنوات والحفيدات تزوجن من منزل أبيهن في مخيم قدورة، إلا أنهن يحلمن الآن بتزويج بناتهن من منزل جدهن في لفتا، تطبيقا لوصية الجدة «اللاجئة»...وكما والدة «أبو محمد» وبناته حكاية آلاف الأمهات والجدات اللواتي يحلمن بالعودة حتى لو كان من خلال الأحفاد: «إذا لم نعد نحن يعود غيرنا، أنا خرجت من عنابا -قضاء الرملة- وسيعود إليها أكثر من ثلاثين حفيداً وحفيدة» قالت أم راتب، الحاجة آمنة والتي استقرت بها رحلة اللجوء في مخيم الأمعري القريب من مدينة البيرة.فهذه الصورة التلقائية في توريث ذاكرة النكبة استطاعت غرس إيمان أجيال، عاشت وتربت في المخيمات الفلسطينية بعد النكبة، إيمان بحق العودة إلى وطنهم وديارهم وأرضهم الأم في فلسطين المحتلة عام 48.كان موشيه ديان قد قال في مقابلة أجرتها معه مجلة «دير شبيغل» الألمانية في تشرين الأول 1971: «في تشرين الثاني عام 1947 رفض العرب قرار التقسيم (الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة) وفي عام 1949 (بعد التوقيع على اتفاقيات الهدنة) عادوا إلى المطالبة بتنفيذه»، وفي عام 1955 كانت جميع الدول العربية المعنية ترفض اتفاقيات الهدنة، وبعد حرب حزيران 1967 عادوا إلى المطالبة بانسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران»، ولن أفاجأ -يؤكد ديان- بعد حرب أخرى تسيطر فيها إسرائيل على مناطق عربية جديدة في الأردن أو سورية إذا ما طالبوا بالعودة إلى الحدود الحالية».في الصميم والجوهر إنما يتحدث ديان عن حالة التفكك والعجز والاستخذاء العربي أولاً، ثم يتحدث عن ضعف الذاكرة العربية وحالة عدم الاكتراث واللامبالاة من جهة ثانية، بينما يمكننا أن نستشف من أقواله من جهة ثالثة، أن الصراع الحقيقي ليس فقط على الأرض المحتلة المغتصبة المهودة، إنما أيضاً على الذاكرة والوعي الجمعي والثوابت القومية العربية.يعبر الكاتب الفلسطيني علي جرادات تعبيراً عميقاً عن جوهر هذا الصراع حينما يقول: «إن السياسة تستطيع أن تغتصب التاريخ، أما أن تلغيه فلا، وتستطيع أن تسطو على الجغرافيا، أما أن تشطبها فذاك المستحيل بعينه، وتستطيع أن تعبث بالديمغرافيا، أما أن تدثرها فذاك نادراً ما حصل»، ويستشهد جرادات هنا بكلمات موشيه ديان أمام طلبة جامعة حيفا عام 1969، حيث قال: «علينا أن لا ننسى أنه فوق هذه الأرض التي نقف عليها، كان هناك أناس آخرون يحرثون ويزرعون ويمارسون حياة طبيعية ما زالوا يسعون مِن أجل العودة إليها».ولكل ذلك نقول أيضاً: ربما لم تشهد القضية والنكبة والذكرى والذاكرة والحقوق العربية الفلسطينية المشروعة في فلسطين، هجوماً صهيونياً بلدوزرياً تجريفياً شاملاً بهدف الإجهاز عليها، كما تشهده في هذه الأيام التي تحل فيها الذكرى الخامسة والستون للنكبة واغتصاب فلسطين، وربما لم تشهد هذه الذكرى أيضاً على مدى سنواتها السابقة هجوماً تجريفياً في محاولة لتفريغها من مضامينها وملفاتها الجوهرية كما تشهده في هذه الايام عبر المبادرات ومشاريع التسوية المزعومة.عندما أعرب شارون في يوم من الأيام عن «إعجابه بشعر محمود درويش» وعن «حسده له وللشعب الفلسطيني على علاقته الوجدانية بالأرض»، إنما كان يعرب عن مشاعر الغضب والقهر في نفسه من قدرة الصمود لدى الشعب الفلسطيني في مواجهة بلدوزر الاقتلاع والتجريف.لذلك نوثق، أن الحفاظ على ذكرى النكبة بكافة ملفاتها، وعلى ذاكرتها لدى الشعب العربي الفلسطيني.. وفي الوعي الجمعي العربي، هو بمثابة سلاح التدمير الشامل في مواجهة بلدوزر الاقتلاع والتجريف والالغاء والنسيان والعبث بحقائق التاريخ والجغرافيا والحضارة والتراث...؟!! - عن «العرب اليوم» الأردنية