«متى يشتفي منك الفؤاد المعذبُ... وسهم المنايا من وصالك أقربُبعادٌ وهجرٌ واشتياق ولوعةٌ... ولا أنت تدنيني ولا أنا أقربُكعصفورةٍ في كف طفل يهينها... تذوق عذاب الموت والطفلُ يلعبلا الطفلُ ذو عقلٍ يرق لحالها... ولا الطير مطلوق الجناح فيذهبُ».هذه الأبيات الجميلة خرجت من قلب عاشق لوع الحب كبده، ولا أتصور أن قرائي الأحبة لم يسمعوا بقصة هذا العاشق المعذب، هو قيس بن الملوح وحبيبته ليلى العامرية، وحولهما نسجت الأساطير وكتبت ومثلت الأعمال المسرحية والسينمائية وحتى الغنائية، حالهم حال عشاق الواقع والخيال عنترة وعبلة، جميل وبثينة، روميو وجولييت. الحب المكنون في القلوب والأفئدة، قد لا يستطيع الإنسان التعبير عنه إلا عندما يختلي لنفسه، ويبدأ يدندن بين أربعة جدران عله يشعر أن المحبوبة دانية قريبة، ويتوهم في كثير من الأحيان أنها بدأت ترسل له الرسالة تلو الأخرى، تشاطره الود وداً والعشق عشقاً والهيام هياماً، حتى يتحول إلى شاعر يغني لقلبه الجريح عله يجد الدواء الشافي لهذا القلب الكليل المعذب.موضوعنا أساساً شديد الصلة بما أسلفنا، عندما تتغزل بوطن كيف تفعل ذلك؟ ألا ينبع من شدة عشقك لكل حبة من ترابه ولكل موجة تهدر وتلاطم شطآنه، تشعر أن الموج هو الآخر عاشق مثلك، يلثم صخور الشطآن بعشق ووله، وينشد أغنية عن الحب والهوى.الإنسان هنا لا يستطيع إلا أن يتوقف متأملاً حال هذا العاشق الولهان، خاصة عند الغروب والشمس تطفئ قرصها النحاسي الملتهب في مياهه الباردة، تجد نفسك كمن يبحث عن فردوسه المفقود في أعماق البحر، والشمس تسقط في البحر وتغرق في لجته دون أن تستجدي أحداً لينقذها، تغرق هي الأخرى في أعماق بحر عشقته حد التتيم.تلك شذرات من عشق الوطن لا يضاهيه ولا يدانيه عشق آخر سواه، يتبادله الإنسان مع الأرض والبحر والطيور والأشجار وقمم الجبال، مع الطرقات والحواري والدواعيس والأزقة الضيقة المتربة، هنا بالذات يصبح الحب مجرداً من كل مصلحة خالياً من أية شائبة، وهنا أيضاً تأخذ التضحية معناها السامي المقدس.لا أدري وأنا أهيم في عشق البحرين أنسى ما عداها، من خلالها أعشق أمي ولا يمكن لي أن أنساها طالما حفرت ذكراها رسماً غائراً في فؤادي، مازلت أحتفظ بذكراها شريطاً يعيدني لأيام الطفولة والصبا والشباب، والمحبة التي منحتني إياها هذه الإنسانة المسكينة والقوية في آن لا يمكن أن تزول وتمحى، هي مسكينة لأن مجتمعها أراد لها أن تكون «من ضلع الرجل العوي»، وقوية لأنها أسست أجيالاً وربت رجالاً وسهرت وتمرمرت وهي تعاني، وزقرتها لا تفرق عن زقرة الجاهل عند زوجها، هي كما يقول أجدادنا الأولين «كرمك الله نعال تفصخها وقت ما تحب وتلبسها وقت ما تحب، ومالها إلا طلعتين من بيت زوجها إلى بيت أهلها، ومن بيت الأخير إلى المقبرة لترقد بسلام».يبقى الوطن منبع محبة غرستها فينا الأم ورسمها في قلوبنا الوالد، عانيت الأمرين عندما شاءت الظروف أن تضعني خارج أسوار الديرة الجميلة الطيبة، ولم أكن بالبعيد كنت في الشارقة لكنها كانت معاناة خارج ديار المحبوبة البحرين، كنت كلما أتذكر البحرين في أغنية أو موضوع أجد نفسي أبكي وتتساقط الدموع من عيني غصباً، ويتحول المشهد كله إلى قصة حب حزينة، وأبداً أحاول العودة إلى رشدي وأرسم بمخيلتي الكثير من المشاهد المبهجة علها تنقذني وتخرجني من حالة اليأس والقنوط دون فائدة.حتى عندما كنت أتابع عملاً مسرحياً بسيطاً للأطفال كان من بطولة الصديق عبدالرحمن العقل وهدى حسين واستمع لهما مع مجموعة الأطفال يرددون:« لي حنه سافرنه الشوق بيرجعنهحب الوطن غالي والعيشه فيه جنة».عندها أتذكر كل الأشقاء العرب من فلسطين، ممن يعيشون كالطيور المهاجرة، هدهم السفر والترحال من بلد لبلد ومن مصر لآخر، هم اليوم في كل بلاد الدنيا إلا وطنهم، والأخوة السوريون اليوم تقمصوا الحالة وباتوا مشردين في الأرض، يبكيني مشهد صغار يتضورون جوعاً في خيم التشتت والضياع، هم وإلى فترة بسيطة كانوا يرسمون بالطباشير على جدران أزقتهم، كانوا يدونون أحلام مستقبلهم هذا طبيب وذاك مهندس والآخر كاتب وربما مخترع، وصدفة يتحول هذا الصغير هو وحلمه إلى جرح غائر لا يندمل، تبحث أمه عن طبيب يعالج جرحه النازف، في خيمة تهزها الرياح وقد تقتلعها في أية لحظة، وينام هذا الصغير في حضن أمه في العراء يفترش الأرض ويلتحف السماء ويحلم بغد أفضل.ذاك هو حب الوطن الحقيقي الذي يسترخصه اليوم في البحرين كثيرون ممن يجهلون محبة الأم والأب والوطن، يجهلون حتى ألف باء العشق والوله، ليتهم يعرفون أن حب الوطن أول العشق ومنتهاه.هذه الصورة تعيدني إلى فترة الستينات، عندما كنا صغاراً نشاهد الأوبريت الجميل الذي يبدأ عرضه بعد نشرة أخبار «بابكو»، هو أوبريت ألفه أحمد شفيق كامل ولحنه موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وشارك في غنائه نخبة من فناني الوطن العربي أوبريت «الوطن الأكبر» ويقول مطلعه: « وطني حبيبي الوطن الأكبريوم ورا يوم أمجاده بتكبر وانتصاراته مالية حياته وطني بيكبر وبيتحرر وطني.. وطني» فهل ما زال للوطن تلك القيمة؟ هل ما زالت في العين دموع تنهمر على أحزانه؟ هل ما زال بين من يتعمدون تخريبه عقول تحاكي المنطق وتتدارس خطوات تضمد جراحه وأياد تجفف دموعه بدل أن تشعل طرقاته؟ هل من ابن بار ينتزع السكين من قلب أمه ليزرع لها وردة؟ النهار ما زال في أوله والشمس لم تبرح حتى الآن كبد السماء فماذا ننتظر؟!.الرشفة الأخيرة دائماً الأنهار هي من تستصلح الأراضي البور وتعيدها لشبابها الأول وتزرع بداخلها الأزهار والمساحات الخضراء.. فهل نستبدل المناديل الورقية التي تمسح دموع البكاء والحزن والندم بنهر صغير يكون مدخلاً لزراعة قطعة أرض نحولها إلى حديقة؟ إلى ساحة خضراء يلعب فيها أبناؤنا جنباً إلى جنب مع أبناء الجيران، بدل أن يتعاركوا ويتباعدوا وتفرق بينهم السبل.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90