لم تنفعني صيحات النخوة القبلية الوثنية، ولا الأدعية الدينية لوقف غبار أبيض تساقط فجأة من سقف غرفتي، رافقه أنين الأضلع الخشبية لسكن الضباط في فنتورا-كالفورنيا خريف 1980م. تبعها سقوط كتبي متناثرة على الأرض وارتطامي ثلاث مرات بالأثاث وأنا أفر لنادي الضباط الملحق بالمبنى طالباً النجدة.
لم يكن الجمع هناك ثملين بعد؛ فقد بدأت للتو ساعة المرح «Happy hour»، لكن ما أثار استغرابي هو أنهم رغم تناثر محتويات المكان لم يكونوا في حالة هلع مثلي مع تجربتي الأولى لمعايشة زلزال، بل في حالة صخب ويتراهنون كم ستكون قوة الزلزال حين تعلن بعد قليل، كنت حينها أحاول دون جدوى تمييز الخيط الرفيع بين الثقة والجرأة من جانب واللامبالاة والتهور المفرط من جهة أخرى.
حين نتحدث لجيراننا الإيرانيين عن هلعنا من تبعات الزلازل على مفاعل بوشهر نصدم بمرافعات سطحية، ليس على الصعيد المعرفي والمنطقي، بل وعلى الصعيد التمويهي أيضاً، حيث يقولون إن سكان بوشهر إيرانيون، ولن نقيم مفاعل يقطع الحرث والنسل في جزء من بلدنا.
فكيف يريدوننا أن نصدق ذلك ونظام الملالي نفسه هو الذي استخدم في المرحلة الافتتاحية للثورة فتية يدفعون أمامهم الحمير لفتح معابر في حقول الألغام خلال الحرب الإيرانية العراقية 1980-1988م نظير وعد بالجنة، فهل وعدت طهران سكان بوشهر بالجنة لأنهم يضحون بأنفسهم لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة الإيرانية! والأهم؛ هل سندخل معهم الجنة لأن انفجار بوشهر يعني أن مرحلة العصف النووي ستحرق بوشهر، وسنفنى نحن من الإشعاع، أو من الجوع خلال الشتاء النووي!
إن التهور والاندفاع المفرط هما ما سيدفع ضفتي الخليج لسباق نووي غير محدد المعالم، فهنا على الضفة العربية من الخليج ثمة من يعتقد أن الطبيب المعالج للعلة الإيرانية مُصر بلا مبرر على تجربة المضادات الحيوية واحد تلو الآخر، فيما تفتك الحمى بخلايا مخ المريض، حيث لم تنفع حتى الآن مضاد التهديد الغربي الإسرائيلي بمهاجمة إيران عسكرياً، ولا العقوبات بالحصار الاقتصادي والدبلوماسي، ولا تقريع كاثرين آشتون لسعيد جليلي الذي أصبح امتصاصه التقريع سبب إرساله في كل مفاوضات.
كما يواصل الغرب اتباع سياسة «العصا والجزرة»؛ وكلاهما غير ذي جدوى، فالعصى تهديدات إسرائيلية غربية جوفاء، والجزرة حصار دبلوماسي واقتصادي تعودت عليه طهران، فانتفت قيمة الوعد برفعه لو انصاعت لهم، مما يجعل هذه المتوالية العبثية مستمرة فيما ندخل عامنا العاشر في مرحلة الأزمة الممتدة.
إن ما يلفت النظر هو أن الأرض الإيرانية قد أرسلت ما يشبه دق جرس الإنذار، وقد عبرت عن ذلك بهزات عنيفة عدة منها زلزال 2003م، وزلزال في نيسابور في يناير2012م وتبريز 2012م، زهان 2012م ودشتي 2013م وزلزال سيستان وبلوتشستان 2013م ثم زلزال بوشهر 2013م. ومما يقلق أن الزلازل تعطي المسوغات لصناع القرار الخليجي بالتطرف في خياراتهم لوقف الطموح النووي الإيراني الذي يرونه شراً في سلميته وشراً في عسكريته. فلرفع الكلفة النووية السلمية والعسكرية على طهران يذهب صقور خليجيون لطرح خيارات تشمل:
- الانضواء تحت المظلة النووية الأمريكية وفتح سماء الخليج وبحره للصواريخ والغواصات القادرة على تغيير موقف طهران.
- احتماء دول الخليج بمفاعل نووي سلمي وإيصال رسالة لطهران مفادها أن المفاعل السلمي هو الخطوة الأولى للسلاح النووي.
- تطوير جدار الصواريخ الخليجية؛ سواء المصممة للدفاع عن منطقة محددة مثل «الباتروت» بكل الخليج أو»ثاد» في الإمارات، أو حتى «رياح الشرق» في الرياض، لتكون قادرة على حمل سلاح نووي، ولعل زيارة هيغل الأخيرة للخليج وتوقيع عقود تسلح ضخمة خير مؤشر على التوجه في هذا المنحى.
- نشر ثقافة التعامل مع الخطر النووي، ويمكن الاحتذاء بتجارب المعسكر الغربي في زمن هلعهم من الرعب النووي السوفيتي في الخمسينات، والذي ولد ثقافة الملاجئ وتخزين الأغذية والأدوية وإجراءات التطهير.
ومازال تمييز الثقة والجرأة عن اللامبالاة والتهور المفرط في موضوع الطموح النووي الإيراني أمر بالغ الصعوبة، ويزيده تعقيداً تداخل مواقف الكتلتين رغم وقوفهما على طرفي نقيض؛ حيث أعرب الرئيس أوباما عن التزامه باستمرار التواصل الدبلوماسي مع إيران، مبرراً النتائج المتواضعة لإدارته في الأزمة أن «الدبلوماسية مهمة صعبة»، «ومهمة من يمتلكون صبراً».
على الطرف الآخر أعلنت إيران افتتاح منشأة جديدة لإنتاج اليورانيوم، وأعلن نجاد في خطاب له «في الماضي كنا نعتمد على الخارج للتزود بمادة (الكعكة الصفراء)، لكن بفضل الله ها نحن ندشن المنجم تلو الآخر، وبتنا نمتلك سلسلة إنتاج للطاقة النووية».
مازلت أذكر أن الزلزال الذي ضرب كاليفورنيا قبل 33 عاماً كان زلزالاً متوسطاً بقوة 5.4 درجة على مقياس ريختر، وفاز بالرهان على قوة الزلزال رجل من نيويورك التي لا تعرف الزلازل، ومع تقديري لجهود اللجان الوطنية للطوارئ بدول مجلس التعاون الخليجي إلا أن عملهم لن يتعدى إخبارنا بعمق البئر التي سيتم رمينا فيها، أما من يدفع بتطبيق إجراءات رفع الكلفة على طهران فهو من يستطيع إيقاف إلقائنا في البئر.
{{ article.visit_count }}
لم يكن الجمع هناك ثملين بعد؛ فقد بدأت للتو ساعة المرح «Happy hour»، لكن ما أثار استغرابي هو أنهم رغم تناثر محتويات المكان لم يكونوا في حالة هلع مثلي مع تجربتي الأولى لمعايشة زلزال، بل في حالة صخب ويتراهنون كم ستكون قوة الزلزال حين تعلن بعد قليل، كنت حينها أحاول دون جدوى تمييز الخيط الرفيع بين الثقة والجرأة من جانب واللامبالاة والتهور المفرط من جهة أخرى.
حين نتحدث لجيراننا الإيرانيين عن هلعنا من تبعات الزلازل على مفاعل بوشهر نصدم بمرافعات سطحية، ليس على الصعيد المعرفي والمنطقي، بل وعلى الصعيد التمويهي أيضاً، حيث يقولون إن سكان بوشهر إيرانيون، ولن نقيم مفاعل يقطع الحرث والنسل في جزء من بلدنا.
فكيف يريدوننا أن نصدق ذلك ونظام الملالي نفسه هو الذي استخدم في المرحلة الافتتاحية للثورة فتية يدفعون أمامهم الحمير لفتح معابر في حقول الألغام خلال الحرب الإيرانية العراقية 1980-1988م نظير وعد بالجنة، فهل وعدت طهران سكان بوشهر بالجنة لأنهم يضحون بأنفسهم لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة الإيرانية! والأهم؛ هل سندخل معهم الجنة لأن انفجار بوشهر يعني أن مرحلة العصف النووي ستحرق بوشهر، وسنفنى نحن من الإشعاع، أو من الجوع خلال الشتاء النووي!
إن التهور والاندفاع المفرط هما ما سيدفع ضفتي الخليج لسباق نووي غير محدد المعالم، فهنا على الضفة العربية من الخليج ثمة من يعتقد أن الطبيب المعالج للعلة الإيرانية مُصر بلا مبرر على تجربة المضادات الحيوية واحد تلو الآخر، فيما تفتك الحمى بخلايا مخ المريض، حيث لم تنفع حتى الآن مضاد التهديد الغربي الإسرائيلي بمهاجمة إيران عسكرياً، ولا العقوبات بالحصار الاقتصادي والدبلوماسي، ولا تقريع كاثرين آشتون لسعيد جليلي الذي أصبح امتصاصه التقريع سبب إرساله في كل مفاوضات.
كما يواصل الغرب اتباع سياسة «العصا والجزرة»؛ وكلاهما غير ذي جدوى، فالعصى تهديدات إسرائيلية غربية جوفاء، والجزرة حصار دبلوماسي واقتصادي تعودت عليه طهران، فانتفت قيمة الوعد برفعه لو انصاعت لهم، مما يجعل هذه المتوالية العبثية مستمرة فيما ندخل عامنا العاشر في مرحلة الأزمة الممتدة.
إن ما يلفت النظر هو أن الأرض الإيرانية قد أرسلت ما يشبه دق جرس الإنذار، وقد عبرت عن ذلك بهزات عنيفة عدة منها زلزال 2003م، وزلزال في نيسابور في يناير2012م وتبريز 2012م، زهان 2012م ودشتي 2013م وزلزال سيستان وبلوتشستان 2013م ثم زلزال بوشهر 2013م. ومما يقلق أن الزلازل تعطي المسوغات لصناع القرار الخليجي بالتطرف في خياراتهم لوقف الطموح النووي الإيراني الذي يرونه شراً في سلميته وشراً في عسكريته. فلرفع الكلفة النووية السلمية والعسكرية على طهران يذهب صقور خليجيون لطرح خيارات تشمل:
- الانضواء تحت المظلة النووية الأمريكية وفتح سماء الخليج وبحره للصواريخ والغواصات القادرة على تغيير موقف طهران.
- احتماء دول الخليج بمفاعل نووي سلمي وإيصال رسالة لطهران مفادها أن المفاعل السلمي هو الخطوة الأولى للسلاح النووي.
- تطوير جدار الصواريخ الخليجية؛ سواء المصممة للدفاع عن منطقة محددة مثل «الباتروت» بكل الخليج أو»ثاد» في الإمارات، أو حتى «رياح الشرق» في الرياض، لتكون قادرة على حمل سلاح نووي، ولعل زيارة هيغل الأخيرة للخليج وتوقيع عقود تسلح ضخمة خير مؤشر على التوجه في هذا المنحى.
- نشر ثقافة التعامل مع الخطر النووي، ويمكن الاحتذاء بتجارب المعسكر الغربي في زمن هلعهم من الرعب النووي السوفيتي في الخمسينات، والذي ولد ثقافة الملاجئ وتخزين الأغذية والأدوية وإجراءات التطهير.
ومازال تمييز الثقة والجرأة عن اللامبالاة والتهور المفرط في موضوع الطموح النووي الإيراني أمر بالغ الصعوبة، ويزيده تعقيداً تداخل مواقف الكتلتين رغم وقوفهما على طرفي نقيض؛ حيث أعرب الرئيس أوباما عن التزامه باستمرار التواصل الدبلوماسي مع إيران، مبرراً النتائج المتواضعة لإدارته في الأزمة أن «الدبلوماسية مهمة صعبة»، «ومهمة من يمتلكون صبراً».
على الطرف الآخر أعلنت إيران افتتاح منشأة جديدة لإنتاج اليورانيوم، وأعلن نجاد في خطاب له «في الماضي كنا نعتمد على الخارج للتزود بمادة (الكعكة الصفراء)، لكن بفضل الله ها نحن ندشن المنجم تلو الآخر، وبتنا نمتلك سلسلة إنتاج للطاقة النووية».
مازلت أذكر أن الزلزال الذي ضرب كاليفورنيا قبل 33 عاماً كان زلزالاً متوسطاً بقوة 5.4 درجة على مقياس ريختر، وفاز بالرهان على قوة الزلزال رجل من نيويورك التي لا تعرف الزلازل، ومع تقديري لجهود اللجان الوطنية للطوارئ بدول مجلس التعاون الخليجي إلا أن عملهم لن يتعدى إخبارنا بعمق البئر التي سيتم رمينا فيها، أما من يدفع بتطبيق إجراءات رفع الكلفة على طهران فهو من يستطيع إيقاف إلقائنا في البئر.