منذ بداية الإصلاح السياسي في المملكة خلال العام 2001 كانت لدى الدولة رؤية معينة تجاه القوى السياسية، وهي رؤية لم تولد من فراغ؛ بل كانت نتاجاً لشبكة معقدة من تداخل عوامل الأيديولوجيا والتاريخ والمصالح جاءت في ظروف ساعدت على ظهور تحالف إستراتيجي عميق داخل النظام السياسي البحريني.
المنبر الإسلامي، الذي يمثل خط الإخوان المسلمين، وجمعية الأصالة، التي تمثل خط السلف، تمثلان الاتجاهات الرئيسة في التيار الإسلامي السني، وعلى مدى أكثر من عقد زمني ساهم التحالف في تحقيق العديد من المكاسب، ومن أبرزها القدرة على تكوين توازن إثنو ـ طائفي داخل النظام، وهو توازن كان مطلوباً منذ عقود. وخلال الأزمة السياسية الأخيرة كانت مواقف المنبر والأصالة مشرفة، ولا يمكن المساومة عليها مثل بقية الجمعيات السياسية الأخرى.
في سياق أكثر شمولية، يمكن ملاحظة أن هاتين الجمعيتين استطاعتا التغلغل في مؤسسات الحكومة بشكل مبالغ فيه، وصارت لديها القدرة على التحكم والتأثير السياسي، حتى باتت تتقاسم معاً من جهة، ومع بعض الجمعيات السياسية الراديكالية من جهة أخرى النفوذ والمحاصصة، ولذلك صار الحديث عن هيمنة المنبر على وزارة التربية والتعليم، وهيمنة الأصالة على وزارة العدل، وهذه نماذج قليلة من مشهد أكبر بكثير تفاصيله باتت معروفة.
مثل هذا التغلغل هل نفع الحكومة أو الدولة؟
قد تكون فائدته مؤقتة، ولكنه من الناحية الاستراتيجية غير مفيد، لأن موظفي الخدمة المدنية في كافة الوزارات والمؤسسات الحكومية صاروا مقسمين حسب انتماءاتهم السياسية، ولا يمكن في أي دولة أن ترتهن مؤسسات الدولة لتنظيمات سياسية وإن كانت شرعية. ومثل هذه الإشكالية تعد تحدياً أساسياً للقطاع العام، حيث لا يمكن أن يكون لدينا قطاع عام ذو كفاءة عالية ويعاني من التسييس بهذه الدرجة.
التحالف الاستراتيجي قاد القطاع العام في أوقات كثيرة إلى درجة من درجات الصراع السياسي، حتى بات هناك تنافس بين المنبر والأصالة على مناصب رئاسة الأقسام وصولاً إلى المدراء ووكلاء الوزارات المساعدين والوكلاء أيضاً.
أنتج التحالف الاستراتيجي توزير عناصر من المنبر والأصالة في الحكومة، وهي خطوة هدفها بالدرجة الأولى سياسي لا أكثر، واللافت أن عملية التوزير طالت حقائب مهمة للغاية.
كانت النتيجة المحتملة أن تنال الدولة تأييداً عميقاً من قبل المنبر والأصالة في عدد من القضايا المهمة دون أن يعني ذلك أن هناك علاقة هيمنة من الدولة على هذه القوى تحديداً، وتفاعلات هذه العلاقة أثبتت ذلك.
بعد مرحلة معقولة نسبياً من التغلغل السياسي في المؤسسات الحكومية، ظهرت بعض الأجندة السياسية الخاصة لدى المنبر والأصالة، وهي أجندة من الواضح تعارضها مع أجندة الدولة، فيمكن على سبيل المثال تناول موقف المنبر من تعامل الإمارات مع قضايا المتورطين في قضايا ماسة بأمن الدولة، أو موقف الأصالة من استخدام بعض الأدوات الدستورية كما حدث في حفل افتتاح دور الانعقاد الثالث نهاية العام الماضي، ولسنا بحاجة لسرد المزيد من التفاصيل هنا.
مؤخراً؛ هيمنت على المشهد السياسي قضية إقرار الموازنة الجديدة للدولة، وظهرت دعوات من النواب أنفسهم لزيادة رواتب موظفي القطاع العام حتى تم تسويق هذه الفكرة على الرأي العام البحريني الذي بات يعيش وهماً اسمه زيادة الرواتب. كل ذلك وأعضاء السلطة التشريعية على علم بحجم الدين العام والأزمة المالية التي تواجهها الدولة ويمكن أن يكون صندوق النقد الدولي طرفاً فيها.
أجرت جهات رسمية اتصالات مع أهم الكتل البرلمانية بشأن الموازنة والموقف تجاهها، وطبيعة البدائل المتاحة التي في النهاية هدفها تحسين مستوى معيشة المواطنين. وتم بيان المخاطر والسلبيات التي يمكن أن تترتب عليها، ومنها على سبيل المثال إمكانية خسارة الدعم الخليجي الذي تعتمد عليه الدولة البحرينية من حكومات دول مجلس التعاون الخليجي عندما يشاهد مواطنو هذه الدول أن حكوماتهم تنفق بسخاء على حكومة البحرين من أجل زيادة الرواتب، وهو ما يمكن أن يثير مطالب داخلية دول الخليج في غنى عنها، وليس مقبولاً أن يكون راتب الموظف الحكومي البحريني أكثر من راتب الموظف الحكومي السعودي في ظل البون الشاسع في الموارد.
في الوقت نفسه التصنيف الائتماني للدولة مازال متراجعاً، وصار متعذراً على الحكومة الاقتراض الخارجي من أجل زيادة رواتب كل عامين، إذ لا توجد دولة في العالم تقوم بزيادة رواتب موظفي القطاع العام لديها كل عامين!
رغم محدودية النفوذ البرلماني للمنبر والأصالة بسبب تراجع التأييد الشعبي الذي حولهما من كتل برلمانية تمثل الأغلبية إلى كتل برلمانية تمثل الأقلية اليوم (المنبر لديها نائبان، وكتلة الأصالة تضم 4 نواب). إلا أنهما قادا حملة ضغط من أجل عدم تمرير الموازنة، مع علمهما بمخاطر مثل هذا القرار وتداعياته الاقتصادية، وحتى الاتصالات وبيان وجهات النظر الحكومية لم يتم الاكتراث بها مطلقاً، وذلك في خطوة أبسط ما يكن أن توصف بأنها «دعاية انتخابية مبكرة» مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي نهاية العام المقبل.
هذا المشهد العميق بتفاصيله، القليل بتداعياته يدفع نحو مزيد من التساؤلات بشأن مستقبل العلاقة الاستراتيجية مع كل من المنبر والأصالة، خاصة وأن هناك نقاشاً واسعاً في دوائر صنع القرار يدور حول هذا الموضوع حالياً لتكون النظرة أكثر شمولية لمستقبل البحرين السياسي مع الحاجة لتصحيح العلاقة مع المنبر والأصالة.
{{ article.visit_count }}
المنبر الإسلامي، الذي يمثل خط الإخوان المسلمين، وجمعية الأصالة، التي تمثل خط السلف، تمثلان الاتجاهات الرئيسة في التيار الإسلامي السني، وعلى مدى أكثر من عقد زمني ساهم التحالف في تحقيق العديد من المكاسب، ومن أبرزها القدرة على تكوين توازن إثنو ـ طائفي داخل النظام، وهو توازن كان مطلوباً منذ عقود. وخلال الأزمة السياسية الأخيرة كانت مواقف المنبر والأصالة مشرفة، ولا يمكن المساومة عليها مثل بقية الجمعيات السياسية الأخرى.
في سياق أكثر شمولية، يمكن ملاحظة أن هاتين الجمعيتين استطاعتا التغلغل في مؤسسات الحكومة بشكل مبالغ فيه، وصارت لديها القدرة على التحكم والتأثير السياسي، حتى باتت تتقاسم معاً من جهة، ومع بعض الجمعيات السياسية الراديكالية من جهة أخرى النفوذ والمحاصصة، ولذلك صار الحديث عن هيمنة المنبر على وزارة التربية والتعليم، وهيمنة الأصالة على وزارة العدل، وهذه نماذج قليلة من مشهد أكبر بكثير تفاصيله باتت معروفة.
مثل هذا التغلغل هل نفع الحكومة أو الدولة؟
قد تكون فائدته مؤقتة، ولكنه من الناحية الاستراتيجية غير مفيد، لأن موظفي الخدمة المدنية في كافة الوزارات والمؤسسات الحكومية صاروا مقسمين حسب انتماءاتهم السياسية، ولا يمكن في أي دولة أن ترتهن مؤسسات الدولة لتنظيمات سياسية وإن كانت شرعية. ومثل هذه الإشكالية تعد تحدياً أساسياً للقطاع العام، حيث لا يمكن أن يكون لدينا قطاع عام ذو كفاءة عالية ويعاني من التسييس بهذه الدرجة.
التحالف الاستراتيجي قاد القطاع العام في أوقات كثيرة إلى درجة من درجات الصراع السياسي، حتى بات هناك تنافس بين المنبر والأصالة على مناصب رئاسة الأقسام وصولاً إلى المدراء ووكلاء الوزارات المساعدين والوكلاء أيضاً.
أنتج التحالف الاستراتيجي توزير عناصر من المنبر والأصالة في الحكومة، وهي خطوة هدفها بالدرجة الأولى سياسي لا أكثر، واللافت أن عملية التوزير طالت حقائب مهمة للغاية.
كانت النتيجة المحتملة أن تنال الدولة تأييداً عميقاً من قبل المنبر والأصالة في عدد من القضايا المهمة دون أن يعني ذلك أن هناك علاقة هيمنة من الدولة على هذه القوى تحديداً، وتفاعلات هذه العلاقة أثبتت ذلك.
بعد مرحلة معقولة نسبياً من التغلغل السياسي في المؤسسات الحكومية، ظهرت بعض الأجندة السياسية الخاصة لدى المنبر والأصالة، وهي أجندة من الواضح تعارضها مع أجندة الدولة، فيمكن على سبيل المثال تناول موقف المنبر من تعامل الإمارات مع قضايا المتورطين في قضايا ماسة بأمن الدولة، أو موقف الأصالة من استخدام بعض الأدوات الدستورية كما حدث في حفل افتتاح دور الانعقاد الثالث نهاية العام الماضي، ولسنا بحاجة لسرد المزيد من التفاصيل هنا.
مؤخراً؛ هيمنت على المشهد السياسي قضية إقرار الموازنة الجديدة للدولة، وظهرت دعوات من النواب أنفسهم لزيادة رواتب موظفي القطاع العام حتى تم تسويق هذه الفكرة على الرأي العام البحريني الذي بات يعيش وهماً اسمه زيادة الرواتب. كل ذلك وأعضاء السلطة التشريعية على علم بحجم الدين العام والأزمة المالية التي تواجهها الدولة ويمكن أن يكون صندوق النقد الدولي طرفاً فيها.
أجرت جهات رسمية اتصالات مع أهم الكتل البرلمانية بشأن الموازنة والموقف تجاهها، وطبيعة البدائل المتاحة التي في النهاية هدفها تحسين مستوى معيشة المواطنين. وتم بيان المخاطر والسلبيات التي يمكن أن تترتب عليها، ومنها على سبيل المثال إمكانية خسارة الدعم الخليجي الذي تعتمد عليه الدولة البحرينية من حكومات دول مجلس التعاون الخليجي عندما يشاهد مواطنو هذه الدول أن حكوماتهم تنفق بسخاء على حكومة البحرين من أجل زيادة الرواتب، وهو ما يمكن أن يثير مطالب داخلية دول الخليج في غنى عنها، وليس مقبولاً أن يكون راتب الموظف الحكومي البحريني أكثر من راتب الموظف الحكومي السعودي في ظل البون الشاسع في الموارد.
في الوقت نفسه التصنيف الائتماني للدولة مازال متراجعاً، وصار متعذراً على الحكومة الاقتراض الخارجي من أجل زيادة رواتب كل عامين، إذ لا توجد دولة في العالم تقوم بزيادة رواتب موظفي القطاع العام لديها كل عامين!
رغم محدودية النفوذ البرلماني للمنبر والأصالة بسبب تراجع التأييد الشعبي الذي حولهما من كتل برلمانية تمثل الأغلبية إلى كتل برلمانية تمثل الأقلية اليوم (المنبر لديها نائبان، وكتلة الأصالة تضم 4 نواب). إلا أنهما قادا حملة ضغط من أجل عدم تمرير الموازنة، مع علمهما بمخاطر مثل هذا القرار وتداعياته الاقتصادية، وحتى الاتصالات وبيان وجهات النظر الحكومية لم يتم الاكتراث بها مطلقاً، وذلك في خطوة أبسط ما يكن أن توصف بأنها «دعاية انتخابية مبكرة» مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي نهاية العام المقبل.
هذا المشهد العميق بتفاصيله، القليل بتداعياته يدفع نحو مزيد من التساؤلات بشأن مستقبل العلاقة الاستراتيجية مع كل من المنبر والأصالة، خاصة وأن هناك نقاشاً واسعاً في دوائر صنع القرار يدور حول هذا الموضوع حالياً لتكون النظرة أكثر شمولية لمستقبل البحرين السياسي مع الحاجة لتصحيح العلاقة مع المنبر والأصالة.