نعم أستسلم وبشدة هنا، لن أصدق أي شعار قادم يتحدث عن محاربة الفساد ومحاسبة المستهترين بالمال العام.
خلاص يا جماعة حان الوقت لإغلاق ديوان الرقابة المالية والإدارية، الذي والله لا أحسد رئيسه والموظفين فيه، إذ لو كنت أعمل معهم لربما أصبت بحالة نفسية من فرط الإحباط حينما أرى هذه الجهود تضيع.
تخيلوا جهد عام كامل من الزيارات لمختلف القطاعات، عام كامل من التدقيق والتمحيـــص وفتـــح الملفـــات وتدويـــن الملاحظات، ثم وضعها في تقرير لو استمرينا في إصداره فسيدخل موسوعة «غينيس» لا محالة، عام كامل من هذا الجهد المبذول والنتيجة «لا شيء».
نعم النتيجة «لا شيء»، وهي حقيقة يجب أن تسمعها الدولة، إذ نؤمن بأن هذا الديوان لم ينشأ إلا بهدف محاربة الفساد، ومنح المعنيين بمحاربته أرضية صلبة يعملون عليها للحفاظ على المال العام، وإبعاد أيدي المفسدين والمستهترين عنه.
لماذا نقول إن النتيجة «لا شيء؟!» ليس كلاماً نطلقه هكذا دون دلالات، بل الأرقام هي أفضل لغة للإثبات.
كم عام مضى على إنشاء الديوان؟! وكم تقرير صدر عنه؟! كم عدد المبالغ التي وثقت والتي هدرت جراء الفساد الإداري والمالي؟! دونوا هذه الأرقام وضعوها في خانة، ثم في خانة مقابلة ضعوا الأرقام المفترض أن تنتج عن عمليات ما بعد «كشف الفساد»، كم مسؤول تمت إحالته للنيابة وتمت محاسبته؟! كم هي المبالغ التي استعيدت من قبل المستهترين والمفسدين؟! كم مقدار التغيير في حجم الميزانيات الممنوحة لقطاعات أثبتت أن وفرة الميزانية لديها تجعلها تصرفها في أوجه لا تمثل أولوية للبلد والمواطن؟!
ضعوا الأرقام حتى نقارن، إذ بهذه الطريقة يكون الحكم على نجاعة أي مشروع، بهذه الطريقة يكون بيان مدى تأثير أي جهد من شأنه إحداث التغيير وصنع الفارق. إذ لا فائدة من الشعارات دون أن تطبق.
نقول للدولة إن كان التعويل على السلطة التشريعية من شوريين ونواب في مسألة التعامل مع تقارير ديوان الرقابة ومحاسبة المفسدين هي الخطوة المنشودة، فهذا للأسف «رهان» على حصان خاسر، وهنا لا ننتقص من الأشخاص في السلطة التشريعية التي من صميم عملها الرقابة والمحاسبة وطرح الثقة، بل انتقاص من أدائهم للدور المطلوب والمناط بهم.
كل عام يزيد حجم التقرير، كل عام نكتشف أن أموالاً أكثر أهدرت، كل عام نكتشف «بلاوي» إدارية لو حصلت في دول أجنبية لكانت هناك محاكمات عديدة، وإحالات لا تتوقف للنيابة وفضائح بالجملة لأناس وضعوا ليكونوا حماة على المال العام وعينوا ليقوموا بخدمة المجتمع فقاموا بالعكس.
مازلت أطلب من الإخوة في ديوان الرقابة المالية أن يضعوا التقارير كاملة على موقعهم الإلكتروني، حتى يتسنى للناس قراءة كل سطر فيها، لا مجرد الاكتفاء بـ»قطوف» تنشرها الصحافة ورغم أنها أجزاء، فإنها «تشيب» شعر الرأس، من باب الشفافية وحتى يكون لجهودكم مردود أقلها على المستوى الشعبي، وفروا هذه التقارير للناس حتى يعرفوا حجم الفساد والاستهتار الحاصل، وحتى يعرفوا كيف أن السلطة التشريعية تتعامل مع هذه الملفات الخطيرة بكل استهتار.
الآن النواب «سيزعلون»، ونقول لهم «ما لكم حق»، الناس هي المستاءة من أدائكم بشأن محاربة الفساد، ملايين تهدر والتي لو وجهت لتحسين وضع الناس لكان المواطن البحريني اليوم بخير وعافية، كل شعاراتكم الانتخابية كانت تتضمن «محاربة الفساد»، لكن حينما وصلتم وحينما توفرت بين أيديكم تقارير مفصلة لا تستهلك وقتكم في البحث والتقصي، وكل ما كان عليكم هو مساءلة المعنيين بهذا الفساد والهدر، بدلاً من القيام بدوركم، تم إلقاء الكرة في ملعب الديوان تارة، وفي ملعب الدولة تارة أخرى.
هذا التنصل من أداء الدور الرقابي يجعل الناس تتساءل عن فائدة وجود البرلمان، هذا المجلس الذي يستنزف أموالاً طائلة على المكافآت والتقاعد الإلزامي والبدلات والسفرات لكنه غير قادر على تحسين وضع الناس، غير قادر على زيادة رواتبهم زيادة مؤثرة، غير قادر على حل مشكلة الإسكان، وغير قادر على محاربة الفساد، وعدم القدرة ليست متعلقة بآلياته وصلاحياته، بل هي مرتبطة أساساً باهتمامات النواب وأولوياتهم، إذ بكل صراحة هل محاربة الفساد ضمن الأولويات؟! والله ما نراه يقول العكس، إنشاء الحدائق أهم من ذلك بكثير!!
عندما نكتب هذا الكلام تخرج بعض الأصوات الانقلابية وتقول: هذا البرلمان الذي تدافعون عنه وتنتقدون «الوفاق» لخروجها منه. هذا الفساد الذي تريدون محاربته لكنكم لم تمنحوا من يريدون محاربته «أي الوفاق وأتباعها» الفرصة للقيام بذلك.
هذه أقوال مضحكة بالفعل، إذ إن «الوفاق» كانت في المجلس حينما كانت تقارير الرقابة المالية تصدر، كانت قادرة على تقديم أي استجواب وفتح أي ملف بحكم عدد نوابها، كانت قادرة أن تفعل أي شيء، ولا تقولوا إنها عجزت لأن البرلمان مقيد، فمن غير الوفاق أصدر لانتخابات 2010 «بروشوراً» ضخماً بعنوان «لماذا أصوت لمرشح الوفاق؟!» ضمنت فيه أكثر من 30 نقطة اعتبرتها إنجازاً وفاقياً من داخل البرلمان، فأين العجز؟!
«الوفاق» نفسها استغلت ملفات مثل أموال الدولة والفساد لتمرير أجندتها، لم تكن نيتها صادقة، رغم أن الجميع في هذا الوطن من مواطنين يريدون محاربة الفساد ومحاسبة المتسببين فيه، لكن «حظ» الناس أن هناك من يرفع شعار محاربة الفساد كـ»حق يراد به باطل»، وإلا لماذا كل هذا التلكؤ في المحاسبة؟! لماذا الاستجواب يتم بمعايير طائفية واضحة؟!
أحس بأن هناك من يريد للفساد أن يستمر ويزيد حتى يتحول شعار «محاربة الفساد» إلى استثمار سياسي وانتخابي وشعار «بطولي»، لمن أراد أن يدغدغ مشاعر الناس ويكسب تأييدهم.
الآن وبعد هذه السنوات من التجربة بشأن محاربة الفساد «بالشعارات» و»الكلام»، ومع تقارير عديدة أصدرها ديوان الرقابة وضعت على الرفوف وعلاها الغبار، إن لم يكن هناك تحرك من الدولة لإنشاء أقلها جهة مستقلة تعنى بتطبيق القانون على المفسدين ولها صلاحية إحالتهم للنيابة وتهدف للحفاظ على المال العام، فإن الأفضل إغلاق الديوان وتسريح موظفيه لأن جهودهم «حرام» أن تضيع هكذا، وخوفاً عليهم من الإحباط والانتكاسات النفسية.
أنا شخصياً «أستسلم» هنا، لا أعتقد بأننا سنعيش يوماً لنرى مسؤولاً يحاسب أو وزيراً يقال أو مالاً عاماً نهب أو هدر يعود لخزينة الدولة. كنا نفرح قبل سنوات عندما نسمع الوعود بمحاربة الفساد والضرب بيد من حديد على من يستهتر بالمال العام، لكن اليوم حينما نستمع لذات الشعارات ردة الفعل لن تخرج عن الشعور بمزيد من الإحباط، فأي محاربة نحتاجها الآن بعد أن هدرت ملايين وبعد أن خرج كثير من هادريها واللاعبين في المال العام من المسألة كما تخرج «الشعرة» من العجين؟!