نعرف المقدس جيداً، وهو كل ما يرتبط بالثوابت الأساسية من المعتقدات الدينية مهما اختلف الدين، وهذا المقدس مصان دائماً في كل نظام ديمقراطي؛ إذ تتيح الديمقراطية الحفاظ على معتقدات الناس مهما اختلفت، ولكن عندما يتم ابتكار (رمز) مصطنع، ويتم تحويله قسراً إلى مقدس فإن الوضع يختلف تماماً.
ولكن السؤال هنا؛ هل يمكن أن يتحول رجل الدين إلى مقدس، بمعنى ألا تجوز مساءلته قانونياً، ولا يجوز الحديث عن أفعاله وأقواله وممارساته سواءً اتفقنا معها أم لم نتفق؟
بالطبع لا يمكن أن يكون رجل الدين «رمزاً» مقدساً، فهو في النهاية إنسان وفرد في المجتمع ينطبق عليه ما ينطبق على الجميع من حقوق وواجبات المواطنة. وذلك لا يعني أن جميع رجال الدين -مهما اختلفت دياناتهم وأصولهم- لا ينبغي أن يحظوا بالاحترام لأدائهم رسالة دينية سامية خاصة بالدين الذي يدينون به تقوم على النصح والإرشاد والتوجيه، وهذا ما علمنا عليه الإسلام الحنيف.
ثمة جماعة -كجماعة ولاية الفقيه- تؤمن بقدسية رجل الدين، وأن مرتبته تصل إلى مرتبة الرسل والأنبياء الكرام وبالتالي فهو إنسان مقدس، لا يجوز الحديث عنه، ولا يجوز محاسبته إن أخطأ في ممارساته وأفعاله بأي شكل من الأشكال، وإن كان هناك أكثر منه علماً ودراية ودراسة بالدين.
جانب هام من إشكالية تقديس رجل الدين في البحرين اعتماد رجال الدين أنفسهم على مبدأين:
المبدأ الأول: تطويع النصوص الشرعية؛ إذ يحرص رجال الدين دائماً على تقديم تفسيرات مبتكرة تعطي إيحاءً بأن رجل الدين مقدس، وينبغي أن تكون العلاقة بينه وبين الجمهور علاقة تقديس وليس علاقة احترام فحسب.
المبدأ الثاني: تكوين شبكة معقدة من المصالح؛ أدرك رجال الدين مبكراً أن العمل الديني القائم على الوعظ والإرشاد -وهي رسالة نبيلة- لا يكفي لتكوين مكانة مميزة لهم في المجتمع، فكانت الحاجة لتكوين شبكة معقدة من المصالح لضمان ديمومة العلاقة بين رجال الدين والجمهور. إذ تتطلب هذه العلاقة الحاجة المستمرة من الجمهور لرجال الدين، ليس من أجل نيل النصح والإرشاد والاستفسار عن أمور الدنيا والدين، بل تتجاوز ذلك بكثير لتصل إلى مرحلة الحاجة المطلقة، وهي الحاجة التي تقوم على السؤال والجواب، بمعنى متى ما احتاج الفرد لدعم مادي لتيسير بعض جوانب معيشته، فإنه يجب أن يلجأ إلى رجال الدين، لا أن يلجأ إلى مؤسسات الدولة التي يفترض أن تقوم بهذا الدور، وحتى إن قامت بهذا الدور، فإن سداد احتياجاته من رجال الدين يجب أن تكون أولوية لارتباطها ببعض الجوانب الدينية المفتعلة، كما هو الحال بالنسبة لنيل البركة من رجال الدين للقيام بمسألة دينية.
هذان المبدآن الهامان هما اللذان هيمنا على علاقـــة التيار السياسي الإسلامي الشيعي مع الجماهير منذ سبعينات القــــرن العشريـــن وحــتى اليوم. لذلك عندما شهد النظام السياسي البحريني التحول الديمقراطي كان الخيار الاستراتيجي للمؤسسة الدينية الشيعية هو تسييس الدين، بحيث تكون هذه المؤسسة هي الإطار الذي يتحكم بتفاعلات كافة التنظيمات السياسية الإسلامية الشيعية، وفي نفس الوقت كانت البيئة مهيأة جداً للسيطرة على الجماهير والتحكم بهم.
فكانت المحصلة النهائية مؤسسة دينية خارجة على القانون مثل المجلس العلمائي، ورجال دين يحظون بقدسية مفرطة تتجاوز كثيراً الثوابت الدينية المعروفة كما هو الحال بالنسبة لعيسى قاسم، أما الجماهير فصارت تعتمد على التقديس الذي أجبرت عليه قسراً منذ عدة عقود.
تصحيح مثل هذا الوضع يتطلب صحوة عامة من الجماهير، وفي الوقت نفسه دوراً هاماً من مؤسسات الدولة، وليس مؤسسات الحكومة فحسب، وهو دور يجب أن يعتمد على إخضاع الجميع لسلطة القانون وإنفاذه دون استثناء أو خوف أو مواربة، لأنها معركة بين ثيوقراطية مستبدة، وبين ديمقراطية مدنية.