أقرب وصف لما يجري في دول الاحتجاجات والانتفاضات العربية هو أنها تعيش مرحلة يمكن تسميتها بـ «استقرار الفوضى»، حيث الفوضى تعتبر الحاكم الرئيس والتفسير الأصوب لكل التصرفات مهما اختلفت التيارات وتباينت التوجهات.
في تونس بدأت مرحلة الاغتيالات السياسية واستقالة الحكومات. وفي مصر أصبحت الفوضى سيدة الأحكام على كل مستوى وفي كل مجال، والقتل مستمر وانهيار الاقتصاد يتضاعف بسرعة مخيفة، وقد أصبحت السلطة هناك تخرج المظاهرات كما المعارضة تماما ومؤسسة الرئاسة تصدر القرارات ثم لا تستطيع تنفيذها، والقضاء تحاصره مجموعات مؤدلجة تمنعه من القيام بمهامه تحت سمع السلطة الأصولية الجديدة وبصرها وبأمرها في أحيان كثيرة.
في ليبيا يمكن أن يصح القول إن كل فصيل يمتلك قوة مسلحة موالية له قادرة على إلغاء اجتماعات الحكومة وحصار ممثلي الشعب، وإغلاق الطرق، والتواصل مع كافة القوى المتطرفة المسلحة جنوباً وشرقاً وغرباً. وفي اليمن الأمر لا يختلف كثيراً في صورته العامة، حيث إن «استقرار الفوضى» لا يعوق الحلول السياسية والأحزاب المتصارعة إلا بقدر ما يمنح «تنظيم القاعدة» مجالاً رحباً للعمل والتخريب. وعموماً فإن كثيراً من الجهود والصراعات والتناقضات هي قبل أن تكون تعبيراً عن المصالح المتناقضة والتوجهات المختلفة إنما تمثل تجلياً لمنطق التاريخ ومكتنزاته وإفرازاته في الواقع والذي يصل في مؤداه الأخير إلى تخريب أي مسعى جاد قد يؤثر على «استقرار الفوضى».
يقف «استقرار الفوضى» على النقيض تماماً من «استقرار الدولة»، فاستقرار الدولة يحتاج للعديد من المعطيات التي تستطيع الحفاظ على «هيبة الدولة» و«نمو الاقتصاد» و«تطوير الإدارة» وتوفير كافة «الاحتياجات الملحة» للمجتمع، والأصلية منها على وجه الخصوص من فرض الأمن والأمان ونشر التعليم وتوسيع دائرته وتطوير نوعيته وتقدم الخدمات الصحية وتوفير فرص العمل وإدارة عجلة الإنتاج والتنمية، أما «استقرار الفوضى» بالمقابل فهو يعني المرحلة الثانية بعد هدم «استقرار الدولة»، وهو ما ترويه كل الأخبار والوقائع والحوادث التي ينضح بها الإعلام قديمه وجديده ذلك القادم من دول الاحتجاجات العربية التي أصبح البحث عن «استقرار الدولة» حلم مواطنيها الدائم، وهو للأسف حلم لم يزل بعيد المنال.
قتلت على بساط الواقع كل الأحلام الوردية والخيالات الشاطحة التي سيطرت على الجماهير الغاضبة والمحتجة وسوقتها النخب الثقافية التي فقدت بوصلة وعيها وحيدت ثقافتها ومعرفتها في مغازلة بين الطرفين لم تدم طويلاً حتى تكشف الواقع عن هيمنة شبه كاملة للتيارات الأصولية التي حرمت ذلك الغزل ومنعته من الاستمرار وألقت بكلكلها على المشهد برمته فتفرق الجمع وتخاصم الحلفاء وتخندق الفرقاء واستقرت الفوضى.
في «استقرار الفوضى» يصبح الفشل قدر الجميع ويصير العجز معبرا عن مجمل الأوضاع، لا تختلف في ذلك شهوة الاستحواذ على السلطة لدى التيارات الأصولية عن شتات المعارضة، فالجميع لا يمتلك رؤية ولا مشروعا ولا برنامجا للدولة، فالأصوليون يريدون قيادة دولة بآليات جماعة سرية، والمعارضة ترفض ذلك ولكنها لا تمتلك بديلاً، والغرب الذي رعى هذا الانتقال الاحتجاجي من أول يوم يقف متفرجا ينتظر ما ستسفر عنه الأحداث وصراعات القوى، وإن كان قد وجد له ميل للقوى الأصولية باعتبارها المخلص الجديد، وهو كل يوم يتنازل عن معاييره وقيمه لإنجاح مشروعها الذي يعترف بأنه لا يعرف أبعاده ولا مصيره بعد.
إن «استبداد الحرية» و»طغيان الديمقراطية» و»غوغائية الجماهير» كلها مفردات كبرى في رصف وتثبيت «استقرار الفوضى»، فالجميع في «استقرار الفوضى» يمتلك مشاريع وبرامج ويشكل تكتلات وتحالفات تكون قادرة على الدوام على «هدم» الآخر ومشاريعه وبرامجه ولكنها بالقدر ذاته عاجزة عن «البناء»، فقوة الهدم تكون أقوى وأبلغ أثرا وأسرع فعالية من قوة البناء في ظل «استقرار الفوضى».
في «الحرية» على سبيل المثال فإن الموروث العربي يربطها بتحرير العبيد، ولا يضفي عليها الأبعاد التي يكتنزها نفس المفهوم غربياً، فليس لدينا روسو ليحدثنا أن «الحرية هي الخضوع للقوانين»، ولا لدينا مونتيسكو ليقول لنا إنه «تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين»، بل لدينا بالمقابل من يعتقد أن «الحرية» كفر و«الديمقراطية» مثلها، ولكنهم جميعاً ينحازون إليها في شقها السياسي فحسب لأنه يخدم مصالحهم في لحظات «استقرار الفوضى» كما تصنع التيارات الأصولية ورموزها وفقهاؤها.
تجري فيما كان يعرف بـ «الربيع العربي» واحدة من أكبر الكذبات في التاريخ المعاصر، حيث تم اختطاف مفاهيم كبرى كـ «الحرية» و«الديمقراطية» و«العدالة» و«المساواة» و»الحقوق» ونحوها كثير، وتمت تعبئتها بمعان تختلف تماماً عن السياق الغربي الذي انتشرت وتطورت تاريخياً فيه، وفي هذا واحدة من أهم ركائز «استقرار الفوضى»، حيث إن مهمة فرز المفاهيم ومحاكمتها هي مهمة نخبوية في الأساس، وهي تأخذ وقتاً لتوضيحها وتمحيصها كما تأخذ وقتاً أطول لإقناع عامة المتلقين من الناس بصحيحها وسقيمها.
تحت ظلال «استقرار الفوضى» تنمو نظريات المؤامرة لا كفعل سياسي واقعي تستبطنه السياسة كواحدة من مهماتها لتحقيق المصالح وتسعى إليه عبر خطط وبرامج واعية كما هو ظاهر لمن يقرأ التاريخ ويتمعن في صراعاته وتصرفات مراكز القوى فيه، بل كمنطق غرائبي خرافي يمثل دائما ملجأ لمن يفقد القدرة على الفهم أو العجز عن السيطرة فتنداح لدى العاجزين نظريات المؤامرة من كل شكل ولون، ويتفنن مروجو تلك النظريات في العزف على أنغامها المختلفة والمتناقضة، كنظريات المؤامرة السياسية أو الدينية، حيث تبرز في الأولى «الصهيوصليبية» وأمثالها كحل أخير، وتتصاعد في الثانية «الماسونية» وأضرابها، والحبل مرخى لمن أراد مزايدة في هذا السبيل أو ذاك، فاستقرار الفوضى يمنح مثل هذه التأويلات قصب السبق على خيارات الفكر ورؤى العقل ومنطق الواقع.
إن كل ما تقدم يؤكد أن «استقرار الفوضى» يلغي كل المعايير والمقاييس والموازين العقلية الواعية الواقعية، ويخلق معادلاته الخاصة حيث يصبح التناقض مستساغا في الطروحات والأفكار والمبادئ، ويصبح الثبات مقبولاً في السياسات والتطورات والتغيرات.
أخيراً، إن «استقرار الفوضى» هو السقف العالي والمعبر اللاحب الذي تندرج تحته وتمر من خلاله كل الخيارات التي تتنقل بين السيئ والأسوأ، وهو من قبل ومن بعد المحضن الدافئ لانتشار التخلف لا التقدم، ولتفشي الأوباء القديمة لا الأفكار الحديثة.
نقلاً عن صحيفة
«الشرق الأوسط» اللندنية
في تونس بدأت مرحلة الاغتيالات السياسية واستقالة الحكومات. وفي مصر أصبحت الفوضى سيدة الأحكام على كل مستوى وفي كل مجال، والقتل مستمر وانهيار الاقتصاد يتضاعف بسرعة مخيفة، وقد أصبحت السلطة هناك تخرج المظاهرات كما المعارضة تماما ومؤسسة الرئاسة تصدر القرارات ثم لا تستطيع تنفيذها، والقضاء تحاصره مجموعات مؤدلجة تمنعه من القيام بمهامه تحت سمع السلطة الأصولية الجديدة وبصرها وبأمرها في أحيان كثيرة.
في ليبيا يمكن أن يصح القول إن كل فصيل يمتلك قوة مسلحة موالية له قادرة على إلغاء اجتماعات الحكومة وحصار ممثلي الشعب، وإغلاق الطرق، والتواصل مع كافة القوى المتطرفة المسلحة جنوباً وشرقاً وغرباً. وفي اليمن الأمر لا يختلف كثيراً في صورته العامة، حيث إن «استقرار الفوضى» لا يعوق الحلول السياسية والأحزاب المتصارعة إلا بقدر ما يمنح «تنظيم القاعدة» مجالاً رحباً للعمل والتخريب. وعموماً فإن كثيراً من الجهود والصراعات والتناقضات هي قبل أن تكون تعبيراً عن المصالح المتناقضة والتوجهات المختلفة إنما تمثل تجلياً لمنطق التاريخ ومكتنزاته وإفرازاته في الواقع والذي يصل في مؤداه الأخير إلى تخريب أي مسعى جاد قد يؤثر على «استقرار الفوضى».
يقف «استقرار الفوضى» على النقيض تماماً من «استقرار الدولة»، فاستقرار الدولة يحتاج للعديد من المعطيات التي تستطيع الحفاظ على «هيبة الدولة» و«نمو الاقتصاد» و«تطوير الإدارة» وتوفير كافة «الاحتياجات الملحة» للمجتمع، والأصلية منها على وجه الخصوص من فرض الأمن والأمان ونشر التعليم وتوسيع دائرته وتطوير نوعيته وتقدم الخدمات الصحية وتوفير فرص العمل وإدارة عجلة الإنتاج والتنمية، أما «استقرار الفوضى» بالمقابل فهو يعني المرحلة الثانية بعد هدم «استقرار الدولة»، وهو ما ترويه كل الأخبار والوقائع والحوادث التي ينضح بها الإعلام قديمه وجديده ذلك القادم من دول الاحتجاجات العربية التي أصبح البحث عن «استقرار الدولة» حلم مواطنيها الدائم، وهو للأسف حلم لم يزل بعيد المنال.
قتلت على بساط الواقع كل الأحلام الوردية والخيالات الشاطحة التي سيطرت على الجماهير الغاضبة والمحتجة وسوقتها النخب الثقافية التي فقدت بوصلة وعيها وحيدت ثقافتها ومعرفتها في مغازلة بين الطرفين لم تدم طويلاً حتى تكشف الواقع عن هيمنة شبه كاملة للتيارات الأصولية التي حرمت ذلك الغزل ومنعته من الاستمرار وألقت بكلكلها على المشهد برمته فتفرق الجمع وتخاصم الحلفاء وتخندق الفرقاء واستقرت الفوضى.
في «استقرار الفوضى» يصبح الفشل قدر الجميع ويصير العجز معبرا عن مجمل الأوضاع، لا تختلف في ذلك شهوة الاستحواذ على السلطة لدى التيارات الأصولية عن شتات المعارضة، فالجميع لا يمتلك رؤية ولا مشروعا ولا برنامجا للدولة، فالأصوليون يريدون قيادة دولة بآليات جماعة سرية، والمعارضة ترفض ذلك ولكنها لا تمتلك بديلاً، والغرب الذي رعى هذا الانتقال الاحتجاجي من أول يوم يقف متفرجا ينتظر ما ستسفر عنه الأحداث وصراعات القوى، وإن كان قد وجد له ميل للقوى الأصولية باعتبارها المخلص الجديد، وهو كل يوم يتنازل عن معاييره وقيمه لإنجاح مشروعها الذي يعترف بأنه لا يعرف أبعاده ولا مصيره بعد.
إن «استبداد الحرية» و»طغيان الديمقراطية» و»غوغائية الجماهير» كلها مفردات كبرى في رصف وتثبيت «استقرار الفوضى»، فالجميع في «استقرار الفوضى» يمتلك مشاريع وبرامج ويشكل تكتلات وتحالفات تكون قادرة على الدوام على «هدم» الآخر ومشاريعه وبرامجه ولكنها بالقدر ذاته عاجزة عن «البناء»، فقوة الهدم تكون أقوى وأبلغ أثرا وأسرع فعالية من قوة البناء في ظل «استقرار الفوضى».
في «الحرية» على سبيل المثال فإن الموروث العربي يربطها بتحرير العبيد، ولا يضفي عليها الأبعاد التي يكتنزها نفس المفهوم غربياً، فليس لدينا روسو ليحدثنا أن «الحرية هي الخضوع للقوانين»، ولا لدينا مونتيسكو ليقول لنا إنه «تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين»، بل لدينا بالمقابل من يعتقد أن «الحرية» كفر و«الديمقراطية» مثلها، ولكنهم جميعاً ينحازون إليها في شقها السياسي فحسب لأنه يخدم مصالحهم في لحظات «استقرار الفوضى» كما تصنع التيارات الأصولية ورموزها وفقهاؤها.
تجري فيما كان يعرف بـ «الربيع العربي» واحدة من أكبر الكذبات في التاريخ المعاصر، حيث تم اختطاف مفاهيم كبرى كـ «الحرية» و«الديمقراطية» و«العدالة» و«المساواة» و»الحقوق» ونحوها كثير، وتمت تعبئتها بمعان تختلف تماماً عن السياق الغربي الذي انتشرت وتطورت تاريخياً فيه، وفي هذا واحدة من أهم ركائز «استقرار الفوضى»، حيث إن مهمة فرز المفاهيم ومحاكمتها هي مهمة نخبوية في الأساس، وهي تأخذ وقتاً لتوضيحها وتمحيصها كما تأخذ وقتاً أطول لإقناع عامة المتلقين من الناس بصحيحها وسقيمها.
تحت ظلال «استقرار الفوضى» تنمو نظريات المؤامرة لا كفعل سياسي واقعي تستبطنه السياسة كواحدة من مهماتها لتحقيق المصالح وتسعى إليه عبر خطط وبرامج واعية كما هو ظاهر لمن يقرأ التاريخ ويتمعن في صراعاته وتصرفات مراكز القوى فيه، بل كمنطق غرائبي خرافي يمثل دائما ملجأ لمن يفقد القدرة على الفهم أو العجز عن السيطرة فتنداح لدى العاجزين نظريات المؤامرة من كل شكل ولون، ويتفنن مروجو تلك النظريات في العزف على أنغامها المختلفة والمتناقضة، كنظريات المؤامرة السياسية أو الدينية، حيث تبرز في الأولى «الصهيوصليبية» وأمثالها كحل أخير، وتتصاعد في الثانية «الماسونية» وأضرابها، والحبل مرخى لمن أراد مزايدة في هذا السبيل أو ذاك، فاستقرار الفوضى يمنح مثل هذه التأويلات قصب السبق على خيارات الفكر ورؤى العقل ومنطق الواقع.
إن كل ما تقدم يؤكد أن «استقرار الفوضى» يلغي كل المعايير والمقاييس والموازين العقلية الواعية الواقعية، ويخلق معادلاته الخاصة حيث يصبح التناقض مستساغا في الطروحات والأفكار والمبادئ، ويصبح الثبات مقبولاً في السياسات والتطورات والتغيرات.
أخيراً، إن «استقرار الفوضى» هو السقف العالي والمعبر اللاحب الذي تندرج تحته وتمر من خلاله كل الخيارات التي تتنقل بين السيئ والأسوأ، وهو من قبل ومن بعد المحضن الدافئ لانتشار التخلف لا التقدم، ولتفشي الأوباء القديمة لا الأفكار الحديثة.
نقلاً عن صحيفة
«الشرق الأوسط» اللندنية