المتابع للحراك السياسي في البحرين يلاحظ أنه يدور في حلقة مفرغة.. أسباب الدوران في المكان متعددة، منها الفهم الخاطئ من جانب المعارضة لقراءة تداعيات «الربيع العربي» على أنها تلقائية تحدث في أي مكان وبنفس الطريقة وتصل إلى نفس النتائج، مهما اختلفت الظروف وتلونت الوسائل. ومن الفهم الخاطئ أن النتيجة يجب أن تكون صفرية والتصرف كأقلية لها مطالب معزولة عن المجتمع ككل. البدايات الخاطئة قادت إلى صيرورة خاطئة حتى الساعة، رغم المحاولات التي قام بها البعض من أجل الوصول إلى تقارب بين السقف المطلوب من المعارضة والممكن من الدولة.
هناك بعض الجوامع التي يستحسن استحضارها حتى تستقيم المناقشة، في ضوء بيئة سياسية لا تقبل إلا التحيز العاطفي دون إعمال العقل، من الجوامع الحكمة أولاً أن «الثورة» إن أراد البعض أن يسميها أو الحراك في مجتمعات العالم، لا تبدأ من القرى، المعروف أن الحراك السياسي تقوده الطبقة الوسطى من أبناء المدن. ومع الاعتراف بأن مفهوم «المدينة» أو «القرية» في البحرين كونها بلداً جزيرياً صغيراً فيه التباس، إلا أن القاعدة تكون صحيحة، فالحراك السياسي يمثل أهل المدن المتعلمين نسبياً، وخصوصاً من أبناء الطبقة الوسطى. ثاني تلك الجوامع أن أي حراك سياسي في مجتمع تعددي «في هذه الحالة سني - شيعي»، ويقتصر كلياً على جناح واحد من تلك التعددية، لا يمكن أن يستمر ويصل إلى أهداف يراد تحقيقها على مستوى المجتمع.
أما اعتماد حراك «طائفي»، وهذا ليس قصوراً في البحرين فقط، ولكن في عدد من البلدان، يحمل معوقاته معه وبذور فشله في صيرورته، ولعلي أشير إلى مقالة في مجلة الـ»فورين أفيرز» ذائعة الصيت «عدد نوفمبر - ديسمبر 2010»، أي قبل أن يظهر أي حراك عربي كان في أي مكان. المقالة تدلل على عقم الحراك السياسي في بلد تعددي يعتمد على فئة واحدة من البشر، وأقلية أو أكثرية نسبية، حيث إنه تلقائياً يهمش الطائفة أو الطوائف الأخرى ويجعلها «معادية» في رد فعل ووَجلة من ذلك التهميش. قد يقول البعض إن هناك بعض العناصر من الطائفة السنية في حراك البحرين، وهذا صحيح، ولكن الأصح أن تلك العناصر تمثل نفسها لا طائفتها الأوسع. الزواج الشرعي هو التوافق على أجندة وطنية واسعة تمثل الولوج إلى العصر الحديث، كون البشر مواطنين، لا كونهم أتباع مذهب! الملمح الثالث هو استمرار استخدام العنف في الشارع، وهو ملمح يقلل من تعاطف النسيج الاجتماعي ويبعث الخوف في قطاع واسع من النسيج المواطني، كما يقلل التعاطف الخارجي الحقيقي لا المؤدلج.
القطبة المغلقة والخفية في حراك البحرين هي التدخل الخارجي، خاصة الإيراني، الذي كشف عنه أكثر من مرة، آخرها تصريح وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، الذي لا لبس فيه ولا مراء. المناقشة في هذا الأمر حساسة، فالبعض يستند إلى قراءة متعجلة لتقرير «بسيوني» الذي بدا للبعض من عباراته أن «يبرئ» إيران من التدخل، لكن التقرير لمح في أكثر من مكان إلى ذلك التدخل «غير المباشر» ربما بصياغة كلمات لها معنى وقتها لدى كتابة التقرير، ولكن هناك ثلاث حقائق ربما حري بقيادة المعارضة أن تنظر إليها بعمق، الأولى هي الإشارات في تقرير بسيوني حول التدخل، والثانية الحديث العلني للسلطة الإيرانية الموثق، والتي ربطت مؤخراً بين حل في سوريا بحل «في البحرين» ولا يتسع المجال هنا لإشارات مفصلة، ولكنها لمن يريد، فالتصريحات موثقة «صوتاً وصورة» كما يقال، وتلك التصريحات بقدر ما يراها قائلوها إنها تشد من عضد فئة في البحرين، تراكم مخاوف أكبر وأعظم لدى فئة أخرى، تضغط بقوة على تفسيرات متشككة بأن الحراك هو ليس باسم الإصلاح، بل باسم التبعية. أما الثالثة فهي خطأ البدايات في الحوار، الذي رفع فيه البعض عناوين مثل «ولاية الفقيه، والجمهورية الإسلامية»، وهي شعارات لم تستطع القوى الأكثر عقلانية في المعارضة الوقوف ضدها علناً، بل عدتها وسائل ضغط إضافية، إلا أن النتائج غير المحسوبة لتك المواقف جاءت بعكس ما أراد العقلاء «في بعض الأحيان العقلاء أيضا يخطئون»، ولعل من الجوامع كذلك ما لدى المعارضة من مخزون مستند إلى أفكار دينية، وهو يتعارض متعاكساً مع أي أفكار ليبرالية تقود إلى هيكلة الدولة الحديثة التي تخدم المواطنين جميعاً، وهي -أي المعارضة- بين نارين، إن اقتربت من الأفكار الليبرالية «الدولة الحديثة بمؤسساتها» التي تلوح لها في الإعلام الغربي، تبتعد في نفس الوقت عن المنطلقات المذهبية التي تعتمد عليها في الحشد والمناصرة والحراك في الشارع، وإن اقتربت من مطالب لها نكهة طائفية ترضي المتشددين عندها ولكنها في نفس الوقت تؤسس لمتشددين مضادين في الطائفة الأخرى، تحت معادلة «التشدد يفرز التشدد».
لعل واحداً من العناصر التي فات على المعارضة تقييمها هو أنها في بيئة محيطة لا تسمح بأن يفرط عقد أحدها إلى حد عدم القدرة على نظمه من جديد، بمعنى أن التساهل يمكن أن يتم في المحيط مع إجراءات سياسية تحديثية، ولكن ليس انقلاباً كاملاً، كما تريد بعض قوى المعارضة.
أمام تزايد خيبات الأمل التي تحدو بسكان مدن «الربيع العربي»، يبدو أن فهم تداعيات «الربيع العربي» الأولى على أنها تقدم إلى الأمام انتكست، ولم تثمر ما وعدت به، فالضغط الذي حرك «14 فبراير» في البحرين لم يعد بذات الشدة، حيث كانت نتائج مثله في أماكن أخرى مخيبة للآمال، لقد ضحي أول ما ضحي في الربيع بالحريات، وتحاصر الأيديولوجيا ذات النكهة الدينية أول ما تحاصر الحريات.
بعد عامين آن لشهر العسل المر أن ينتهي في البحرين، ودموع هاتين السنتين لن تكفكف إلا بعد زمن طويل، ولن يفعل الشركاء ذلك إلا بوجود رجال ذوي رؤية وبعد نظر، ولا أظن أن البحرين خالية منهم، إلا أن المعادلة يجب أن تعكس بدلاً من الخسارة ربحاً مشتركاً.
آخر الكلام:
يقول الشاعر: «قد ينبت المرعى على دمن الثرى - وتبقى حزازات النفوس كما هي».
وقانا الله من حزازات النفوس!
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية
{{ article.visit_count }}
هناك بعض الجوامع التي يستحسن استحضارها حتى تستقيم المناقشة، في ضوء بيئة سياسية لا تقبل إلا التحيز العاطفي دون إعمال العقل، من الجوامع الحكمة أولاً أن «الثورة» إن أراد البعض أن يسميها أو الحراك في مجتمعات العالم، لا تبدأ من القرى، المعروف أن الحراك السياسي تقوده الطبقة الوسطى من أبناء المدن. ومع الاعتراف بأن مفهوم «المدينة» أو «القرية» في البحرين كونها بلداً جزيرياً صغيراً فيه التباس، إلا أن القاعدة تكون صحيحة، فالحراك السياسي يمثل أهل المدن المتعلمين نسبياً، وخصوصاً من أبناء الطبقة الوسطى. ثاني تلك الجوامع أن أي حراك سياسي في مجتمع تعددي «في هذه الحالة سني - شيعي»، ويقتصر كلياً على جناح واحد من تلك التعددية، لا يمكن أن يستمر ويصل إلى أهداف يراد تحقيقها على مستوى المجتمع.
أما اعتماد حراك «طائفي»، وهذا ليس قصوراً في البحرين فقط، ولكن في عدد من البلدان، يحمل معوقاته معه وبذور فشله في صيرورته، ولعلي أشير إلى مقالة في مجلة الـ»فورين أفيرز» ذائعة الصيت «عدد نوفمبر - ديسمبر 2010»، أي قبل أن يظهر أي حراك عربي كان في أي مكان. المقالة تدلل على عقم الحراك السياسي في بلد تعددي يعتمد على فئة واحدة من البشر، وأقلية أو أكثرية نسبية، حيث إنه تلقائياً يهمش الطائفة أو الطوائف الأخرى ويجعلها «معادية» في رد فعل ووَجلة من ذلك التهميش. قد يقول البعض إن هناك بعض العناصر من الطائفة السنية في حراك البحرين، وهذا صحيح، ولكن الأصح أن تلك العناصر تمثل نفسها لا طائفتها الأوسع. الزواج الشرعي هو التوافق على أجندة وطنية واسعة تمثل الولوج إلى العصر الحديث، كون البشر مواطنين، لا كونهم أتباع مذهب! الملمح الثالث هو استمرار استخدام العنف في الشارع، وهو ملمح يقلل من تعاطف النسيج الاجتماعي ويبعث الخوف في قطاع واسع من النسيج المواطني، كما يقلل التعاطف الخارجي الحقيقي لا المؤدلج.
القطبة المغلقة والخفية في حراك البحرين هي التدخل الخارجي، خاصة الإيراني، الذي كشف عنه أكثر من مرة، آخرها تصريح وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، الذي لا لبس فيه ولا مراء. المناقشة في هذا الأمر حساسة، فالبعض يستند إلى قراءة متعجلة لتقرير «بسيوني» الذي بدا للبعض من عباراته أن «يبرئ» إيران من التدخل، لكن التقرير لمح في أكثر من مكان إلى ذلك التدخل «غير المباشر» ربما بصياغة كلمات لها معنى وقتها لدى كتابة التقرير، ولكن هناك ثلاث حقائق ربما حري بقيادة المعارضة أن تنظر إليها بعمق، الأولى هي الإشارات في تقرير بسيوني حول التدخل، والثانية الحديث العلني للسلطة الإيرانية الموثق، والتي ربطت مؤخراً بين حل في سوريا بحل «في البحرين» ولا يتسع المجال هنا لإشارات مفصلة، ولكنها لمن يريد، فالتصريحات موثقة «صوتاً وصورة» كما يقال، وتلك التصريحات بقدر ما يراها قائلوها إنها تشد من عضد فئة في البحرين، تراكم مخاوف أكبر وأعظم لدى فئة أخرى، تضغط بقوة على تفسيرات متشككة بأن الحراك هو ليس باسم الإصلاح، بل باسم التبعية. أما الثالثة فهي خطأ البدايات في الحوار، الذي رفع فيه البعض عناوين مثل «ولاية الفقيه، والجمهورية الإسلامية»، وهي شعارات لم تستطع القوى الأكثر عقلانية في المعارضة الوقوف ضدها علناً، بل عدتها وسائل ضغط إضافية، إلا أن النتائج غير المحسوبة لتك المواقف جاءت بعكس ما أراد العقلاء «في بعض الأحيان العقلاء أيضا يخطئون»، ولعل من الجوامع كذلك ما لدى المعارضة من مخزون مستند إلى أفكار دينية، وهو يتعارض متعاكساً مع أي أفكار ليبرالية تقود إلى هيكلة الدولة الحديثة التي تخدم المواطنين جميعاً، وهي -أي المعارضة- بين نارين، إن اقتربت من الأفكار الليبرالية «الدولة الحديثة بمؤسساتها» التي تلوح لها في الإعلام الغربي، تبتعد في نفس الوقت عن المنطلقات المذهبية التي تعتمد عليها في الحشد والمناصرة والحراك في الشارع، وإن اقتربت من مطالب لها نكهة طائفية ترضي المتشددين عندها ولكنها في نفس الوقت تؤسس لمتشددين مضادين في الطائفة الأخرى، تحت معادلة «التشدد يفرز التشدد».
لعل واحداً من العناصر التي فات على المعارضة تقييمها هو أنها في بيئة محيطة لا تسمح بأن يفرط عقد أحدها إلى حد عدم القدرة على نظمه من جديد، بمعنى أن التساهل يمكن أن يتم في المحيط مع إجراءات سياسية تحديثية، ولكن ليس انقلاباً كاملاً، كما تريد بعض قوى المعارضة.
أمام تزايد خيبات الأمل التي تحدو بسكان مدن «الربيع العربي»، يبدو أن فهم تداعيات «الربيع العربي» الأولى على أنها تقدم إلى الأمام انتكست، ولم تثمر ما وعدت به، فالضغط الذي حرك «14 فبراير» في البحرين لم يعد بذات الشدة، حيث كانت نتائج مثله في أماكن أخرى مخيبة للآمال، لقد ضحي أول ما ضحي في الربيع بالحريات، وتحاصر الأيديولوجيا ذات النكهة الدينية أول ما تحاصر الحريات.
بعد عامين آن لشهر العسل المر أن ينتهي في البحرين، ودموع هاتين السنتين لن تكفكف إلا بعد زمن طويل، ولن يفعل الشركاء ذلك إلا بوجود رجال ذوي رؤية وبعد نظر، ولا أظن أن البحرين خالية منهم، إلا أن المعادلة يجب أن تعكس بدلاً من الخسارة ربحاً مشتركاً.
آخر الكلام:
يقول الشاعر: «قد ينبت المرعى على دمن الثرى - وتبقى حزازات النفوس كما هي».
وقانا الله من حزازات النفوس!
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية