الإدارة الأمريكية الحالية تشتت وتضيع جهود الأجداد الأمريكان التي استغرق بناؤها قرناً من الزمان لتثبت نفوذ ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة أسفرت عن اتفاقات وبناء قواعد وتحالفات، نسجت خيوطاً من المصالح المشتركة نجحت في حفظ المصلحة الأمريكية ونفوذها هنا، لتأتي هذه الإدارة و تزعزع الثقة بالسياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط نتيجة ضبابية الرؤية وعدم وضوح الموقف وثباته، خاصة من بعد موقفها مما حدث في البحرين، حيث فوجئت شعوب وأنظمة دول مجلس التعاون الخليجي بالموقف الأمريكي، وها هي ترتكب ذات الأخطاء في سوريا وتثير قلق هذه الدول ومعها تركيا أيضاً.
وتلقت هذه الإدارة تحذيرات من داخل الدوائر الأمريكية تنبهها فيها إلى خطورة اتخاذ مواقف آنية مؤثرة على الرؤية الاستراتيجية الشاملة، وأن ما تفعله الإدارة ليس انسحاباً من المنطقة وتقليل النفوذ العسكري الأمريكي، وأن تقوية المحور الإيراني الروسي في المنطقة لن يخدم المصالح الأمريكية لكن الإدارة مصرة على تخبطها.
وإليكم مقتطفات من تقرير مهم كتبه الدكتور بشير زين العابدين الباحث في مركز دراسات في البحرين يجمع في طياته مقتطفات من تقارير غربية ومقالات تحذر الإدارة الأمريكية من مواقفها وسياستها الخارجية «وقد حذر تقرير استراتيجي أوروبي من أن إدارة أوباما ترتكب خطأ فادحاً بترك المحور الثلاثي «روسيا-إيران-العراق» يرسم مستقبل سوريا في معزل عن الدور الغربي في هذه المرحلة الحاسمة، كما تحدث التقرير عن تعهد روسي لإيران بتأخير مؤتمر «جنيف 2» حتى تتم عملية تطهير القصير وحمص من المعارضة بصورة نهائية.
«وقد أبدى تقرير استراتيجي أوروبي القلق من إمكانية أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية تغض الطرف عن الاستراتيجية الروسية-الإيرانية لإقامة جيب طائفي في حمص وبانياس يمهد لتقسيم البلاد على الأسس الطائفية التي تم تقسيم العراق عليها قبل نحو عشر سنوات، وهو أمر لا تعارضه الإدارة الأمريكية من حيث المبدأ» انتهى الاقتباس.
هذه السياسية الأمريكية الانفرادية التي تعطي ظهرها للدور الأوروبي لم تكن تشكو منها أوروبا في بداية الأزمة السورية، فقد كان الموقف موحداً مع الاتحاد الأوروبي، ولم يكن هناك حديث عن بقاء النظام أو تقسيم سوريا أو إعطاء إيران دوراً في رسم ملامح مستقبل سوريا إلا أنه وخلال أقل من عام تبدل الموقف الأمريكي، وسرعة التغيير بمعزل عن الموقف الأوروبي مما يدل على أن هناك ضعفاً في عملية اتخاذ القرار من منظور استراتيجي شامل بل تعامل مجتزأ يتحدد بناء على المعالجة الآنية وهذا ما حدث في البحرين تماماً، حيث بدأ الموقف الأمريكي مأخوذاً بثورات الربيع العربي وانخرط في تأييد الاحتجاجات وهو الذي أشاد قبل شهرين بالإصلاحات السياسية في البحرين! ثم عاد وتراجع ووقف متردداً اليوم لا يعرف أين يضع رجله رغم كل مؤشرات التدخل الإيراني في المنطقة ومحاولات بسط نفوذها عن طريق عملائها متخذة الاحتجاجات مدخلاً لهذا التدخل ورغم الموقف الأوروبي المناقض للموقف الأمريكي.
وفي ترددها وعدم حسمها تجازف الولايات المتحدة الأمريكية لتعطى لإيران فرصة إعادة رسم الخارطة في المنطقة بمساعدتها على نفوذ يمتد من سوريا والعراق شمالاً إلى مضيق هرمز جنوباً وأيضاً بمعزل عن الموقف الأوروبي تجاه إيران!!
وعودة إلى تقرير الدكتور بشير الذي يؤكد وجود خلاف حتى داخل الدوائر الأمريكية وانتقاد صريح لسياسة أوباما المترددة وتبعاتها الكارثية على المصالح الأمريكية في المنطقة، إذ يؤكد الدكتور بشير التالي «وقد حاول السفير روبيرت فورد والسيناتور جون ماكين عبثاً إقناع الإدارة الأمريكية بأن ظاهرة التطرف في صفوف المعارضة «السورية» قد تم تضخيمها لتشويه صورة الثورة، لكن الحكومة الأمريكية قد تبنت هذه الجدلية لتبرر تقاعسها عن دعم الثورة، ومنع السلاح عنها، ورغبتها بترسيخ دور مؤسسات النظام في الترتيبات المستقبلية للبلاد، وهو ما يتوافق مع المخططات الأمنية والاستراتيجية لتل أبيب» انتهى الاقتباس.
إن أمريكا تسلم بترددها «إيران» المنطقة تلو الأخرى بضمانات إيرانية وروسية بعدم تهديد إسرائيل، وليس هذا التسليم بمعزل عن الموقف الأوروبي بل هو مناقض ومضاد للمصالح التركية وأمنها، حيث تتجاهل تماماً الدلائل التي ساقتها تركيا لتورط النظام السوري باستخدام السلاح الكيماوي «انظر ما يحدث لتركيا الآن واقرأ ما يكتبه خدم إيران عن تركيا في الصحافة البحرينية ستجد توافقاً تاماً إيرانياً أمريكياً إسرائيلياً».
الأمر لم يتعد فقط تغييراً في الموقف الأمريكي بل يتمادى ليصل إلى تدخل لمساعدة نظام الأسد في القضاء على جيوب المعارضة في المنطقة المتاخمة لإسرائيل وأولها «القصير» فما يحكم الموقف الأمريكي هو أمن إسرائيل أولاً ولتذهب الحرية والعدالة إلى الجحيم، ومعها بالطبع حقوق الإنسان وأقنعة الديمقراطية بطبيعة الحال.
فلا مبادئ ولا ثوابت بل أمن إسرائيل الذي ضمنه حزب الله ونظام الأسد في حين تهدده المعارضة السورية!! وهذا ما يفسر تبدل ما هو معلن من المواقف الأمريكية تجاه أزمة سوريا، إذ كتب الدكتور بشير في التقرير التالي:
«شابت أجواء التوتر اجتماعاً سرياً جمع ضباطاً سوريين منشقين مع مسؤولين بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «CIA» نتيجة سوء فهم بسيط:
فقد كان ضباط الجيش الحر قد أعدوا قائمة بالأسلحة والذخيرة وأدوات الاتصال التي تتطلبها عملية إحكام السيطرة على المحافظات الجنوبية ومواجهة النظام في دمشق؛ لكنهم فوجئوا بأن المسؤولين الأمريكيين لم يعيروا اهتماماً كبيراً لمعركة المصير! بل كان اهتمام ضباط الاستخبارات الأمريكية منصباً على جمع معلومات عن الكتائب الإسلامية التي صنفت على أنها «متشددة»، وعن أعداد مقاتليها وأماكن تواجدها، ولم يلتفتوا إلى ما أتى السوريون لمناقشته»... «بات واضحاً لدينا أن حكومات الغرب لا تخوض المعركة التي نخوضها نحن؛ السوريون يقاتلون من أجل نيل حريتهم، بينما تريد الدول الغربية منا أن نقاتل بعضنا، ولا تكترث بسفك المزيد من دماء السوريين».... «ففي اللقاء الذي جمع كيري ولافروف بموسكو «7 مايو 2013» كانت مشكلة القضاء على «الجماعات المتطرفة» في سوريا أحد أهم النقاط التي توافق عليها الجانبان، وأقر كيري بأنه يتفق مع رؤى موسكو في مواجهة هذه الجماعات».... «وفي 14 مايو في منتجع «سوتشي» في البحر الأسود اجتمع بوتين مع نتنياهو وفي الاجتماع طلب منه أن يعمل على استخدام نفوذ تل أبيب في واشنطن لإقناع الإدارة الأمريكية بعدم جدوى محاولة الإطاحة ببشار الأسد، وضرورة عدم تسليح المعارضة، مؤكداً أن موسكو معنية في الوقت الحالي بتدمير البنى التحتية للجماعات المسلحة التي تمثل خطورة على مصالح كل من موسكو وتل أبيب والدول الغربية على حد تعبيره».... «وألمح مصدر مقرب من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إلى أنه لم تجرِ العادة بالتزام إسرائيل الصمت تجاه عمليات يشنها جيش النظام السوري وميليشيات «حزب الله» في مناطق متاخمة لحدودها، لكنها تغض الطرف عن المعارك الدائرة مما يؤكد وجود ضمانات مسبقة». انتهى الاقتباس.
اختم بالقول بأن كل هذا التخبط وكل تلك المحاور المعقودة بين هذه الأطراف فشلت في هزيمة شعب البحرين والشعب السوري، وردت سهام خدم إيران إلى نحورهم.