روج الفكر الديمقراطي الغربي لمفهوم صندوق الاقتراع، وتعدد الأحزاب، كأساس للشرعية السياسية، ومن ثم الديمقراطية، حتى ساد الاعتقاد بوجه عام، أنه لا بديل لمثل هذا الأسلوب، للحصول على الشرعية، وتحول مفهوم صندوق الاقتراع إلى ما يشبه «التابو» الذي لا يمكن المساس به أو التشكيك فيه.
ولعله ممن المفارقات أن هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة إبان وجودها في قمة السلطة بوزارة الخارجية، وأثناء مشاركتها في مؤتمر المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في عام 2010 بالمنامة، ذكرت في كلمتها أمام المؤتمر بصراحة ووضوح أن «الانتخابات ليست هي الديمقراطية، وإنها ليست الوسيلة الوحيدة لإقامة نظام ديمقراطي»، وكان هذا القول ملفتاً للنظر لصدوره من شخصية أمريكية بمستوى هيلاري كلينتون وفي مرحلة كانت الكثير من مراكز الأبحاث الأمريكية تروج للديمقراطية عبر صناديق الاقتراع، ومع هذا مر هذا القول مرور الكرام آنذاك، دون أن يثير نقاشاً كبيراً، وإن شعر البعض بأن هذا قول صادق ودليل دامغ شهدت به قيادة أمريكية من أهل الديمقراطية التي لا يمكن التشكيك فيها، أو في نوايا قائلتها ذلك لأن السيدة هيلاري تابعت عباراتها السابقة بقولها: «ولكن هذا لا يعني الإقلال من أهمية الانتخابات الحرة والنزيهة كأداة ومظهر من مظاهر الديمقراطية».
السؤال الذي نطرحه ونسعى للإجابة عليه، إلى أي مدى تعتبر شرعية صندوق الانتخابات هي أداة الشرعية السياسية؟ وهل هذا أمر مطلق أم أمر نسبي ؟ ومن دراسة شواهدها ما يسمى بـ «الربيع أو الخريف العربي»، كما نعيشها ويعيشها كل مواطن عربي، نجد العكس صحيحاً؟ إذ وصلت للسلطة عبر صناديق الاقتراع بعض القوى التي لا تفهم معنى الديمقراطية، وأصبحت تمارس أبشع أنواع الديكتاتورية، كما إنها تعاملت مع صندوق الاقتراع بوسائل الغش والخداع والرشى للجماهير، فضلاً عن أدوات الترهيب والترغيب المرتبطة بالإسلام السياسي، ولذلك كان حقاً أن باحث مثل البروفسور سيث جونز Seth Jones مساعد مدير برنامج دراسات الأمن الدولي في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز بالولايات المتحدة الأمريكية أن يطلق على أحداث المنطقة العربية، في مقال بمجلة الـ «فورين أفيرز» الأمريكية عدد يناير - فبراير 2013 بأنها «سراب الربيع العربي»، ويدعو للتعامل مع إقليم الشرق الأوسط كما هو قائم، وليس كما يريده الأمريكيون. في حين ذهبت البروفيسورة شيري برمان Sheri Berman في نفس العدد في مقال بعنوان «وعد الربيع العربي» إلى أنه في مجال التنمية السياسية ليس هناك مكسب بدون ألم «No Gain without Pain»، وذلك بعد أن شاهدت الآلام والمعاناة والدماء التي تسيل من الشعوب والدمار المادي والاقتصادي للدول. وكأن شعارها بأنه «لا مكسب بدون ألم»، استهدف تقديم العزاء للشعوب المصابة بفاجعة كبرى فيما أطلق عليه «الربيع العربي»، وهو مصطلح تخلى عنه معظم الباحثين الأمريكيين والأوروبيين الذين روجوا له لبضع سنوات، في غمار عملية التحول والإصلاح في أوروبا الشرقية. وهذا يذكرنا بالوصفات الجاهزة لصندوق النقد الدولي، وأيضاً بالوجبات السريعة الجاهزة التي تقدم لمعالجة جوع الإنسان، ثم يكتشف أن بها سموماً عظيمة، حيث الدهون التي تزيد نسبة الكوليسترول، وتؤدي للإصابة بأمراض القلب وربما الموت المفاجئ السريع.
وهذا ما يدعو لضرورة النظر لتجارب الدول الأخرى، وفي مقدمتها الصين الشعبية، والتي قدمت نموذجاً رائداً للتنمية الاقتصادية، ولرفع مستوى معيشة الشعب الصيني، وزيادة الإنتاج، فتحولت الصين خلال عقد من الزمن من دولة يعاني شعبها المجاعات، ويعاني اقتصادها من التخلف، وتعتمد صناعاتها على ما أنتجه الاتحاد السوفيتي من معدات تجاوزها الزمن، إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم اعتمد على عدة ركائز أساسية في مقدمتها الفكر الاستراتيجي المبدع للعقلية الصينية، والذي أطلقه زعيمها الأسبق «دنج سياوبنج» عبر سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، ومن تلك الركائز الاعتماد على الحزب الشيوعي الصيني وكوادره التي تصل لمناصبها عبر عملية طويلة ومعقدة من الاختيار والترقي في مختلف المواقع دون السماح لأي عضو للوصول إلى قمة السلطة في منصب وزير أو ما يماثلها دون اجتياز اختبارات نظرية وعملية قاسية تعتمد على عنصر الاستحقاق والجدارة، أو ما يسمى Meritocracy، والركيزة الثالثة في فلسفة الحزب الشيوعي الصيني وإيديولوجيته هي القدرة على المواءمة المستمرة مع المتغيرات والمستجدات. ولفت نظري في هذا الصدد دراسة مهمة نشرت أيضاً في مجلة «فورين أفيرز» عدد يناير 2013 لأستاذ العلوم السياسية والرأسمالي الصيني إيريك شي لي «Eric x li» بعنوان «حياة الحزب ما بعد المستقبل الديمقراطي في الصين» أبرز فيها عدة نقاط مهمة نوجزها في قدرة الحزب على تصحيح أخطائه، والانطلاق إلى مرحلة جديدة اعتماداً على مبدأ الجدارة والاستحقاق، وإن أساس التقييم هو الإنجاز والأداء الاقتصادي والإداري.
والباحث لم يخف أن الصين تواجه، في العهد الجديد للقيادة برئاسة أمين عام الحزب والرئيس القادم للدولة شي جين بنج، تحديات كبيرة في مقدمتها ثلاثة تحديات:
- الأول: تحدي الفساد الذي انتشر بصورة كبيرة خاصة في صفوف الحزب في مختلف المستويات واعترفت به القيادة العليا للحزب منذ أمد، وبطريقة أكثر وضوحاً وصراحة في اجتماعات المؤتمر الثامن عشر للحزب في نوفمبر 2012.
- الثاني : تحدي الأزمة الاقتصادية العالمية التي أثرت على صادرات الصين والتي كانت هي الأداة الرئيسة في دفع عملية التنمية في السنوات السابقة.
- الثالث: اتساع الفجوة بين الطبقات الناشئة وبين الأقاليم المختلفة في الصين بصورة تهدد السلام الاجتماعي والعدالة الاجتماعية.
البروفيسور «لي» أوضح عدة أمور تستحق الذكر منها أن اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للمؤتمر الثامن عشر للحزب مكونة من 25 عضواً يمثلون القيادة العليا في الصين منهم 5 أعضاء فقط من أبناء قادة سابقين في الصين، أما الـ 20 عضواً الآخرين فإنهم ينتمون للطبقة المتوسطة والفقيرة، وشقوا طريقهم للقمة عبر الإنجاز الاقتصادي والإداري من خلال تولي مهام في قرى ومدن صغيرة ثم جرى تصعيدهم كلما يحقق أي منهم إنجازاً متميزاً، ومن ثم فإن التوازن في عضوية القيادة العليا وعلى مختلف المستويات يظهر وجود نسبة 20% - 80% مع إقراره أيضاً بأن الـ 5 منهم أي الـ 20% والذين هم أبناء القادة السابقين هم أيضاً يتمتعون بالكفاءة، ويصعدون عبر الانتخابات القاسية. وأشار الباحث إلى أن قدرة الحزب الشيوعي الصيني في تطوير فلسفته عبر السنين مثل إضافة التركيز على اقتصاد السوق، والسماح للرأسماليين الوطنيين بالانضمام للحزب، وتوسيع دائرة المعرفة، ورفع مستوى المعيشة للطبقات الفقيرة.
واستطرد البروفيسور «لي» بأن السر الدفين لنجاح الصين وضع ذوي الاستحقاق في المناصب هو «إدارة التنظيم في الحزب»، والتي تقع عليها مسؤولية اختيار القيادات في مختلف المستويات، ومراقبتهم وتدريبهم وترقيتهم، وأوضح أنه يتم اختيار القيادات الواعدة من مختلف مناطق الصين وجامعاتها في عملية قاسية دقيقة وحازمة تبدأ من أدنى المستويات الإدارية حتى أعلاها. ولاشك أن هذا يذكرنا بالتراث التقليدي للصين منذ عهد كونفوشيوس بالتركيز على الامتحانات العامة لتولي المناصب العمومية في الخدمة المدنية، وهذا اعتبر أهم إنجاز وأكبر ركيزة للحضارة الصينية التقليدية العريقة، وهو ما مكنها من الحفاظ على الاستمرارية الحضارية، والوحدة الوطنية لأقاليمها، بخلاف ما حدث في العديد من الحضارات القديمة، ومنها الحضارة العربية الإسلامية التي بلغت أوج قوتها، ثم انهارت لسيطرة غير الجديرين بالمناصب والصراع بين الدويلات الإسلامية بعضها بعضاً، والصراع أيضاً داخل الأسر الحاكمة في الدولة الأموية والدولة العباسية حتى الدولة العثمانية.
أما الأمر الثاني الملفت للنظر في تحليل البروفيسور «لي» فهو ما يتعلق بحالة الفساد في الصين والتي يراها خطيرة، ولكنه يقارن أيضاً بينها وبين دول قامت الشرعية السياسية فيها على أساس الانتخابات الديمقراطية، وفقاً للنموذج الغربي، ويذكر أن تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2011 وضع الصين في المرتبة الـ 75 على المستوى الدولي، في حين أن اليونان في المكانة الـ 80، والهند في المرتبة الـ 95، وإندونيسيا والأرجنتين في المرتبة المائة، والفلبين في المرتبة الـ 129، وهي جميعها دول تتم فيها انتخابات ديمقراطية. وفي نفس الوقت أبرز دور لجنة الانضباط الحزبي في معاقبة كبار المسؤولين حين تقع منهم أخطاء، ولعل أشهر الحالات هي حاله «بو شي لاي» Bu xilai أمين عام الحزب في بلدية تشونج شونج ذات الحكم الذاتي Chongxing والذي أطيح به وحكم على زوجته أيضاً لدورها في قتل رجل أعمال بريطاني كان شريكاً لها في مجال الأعمال، هذا فضلاً عن مئات الآلاف من القيادات الحزبية على مختلف المستويات والذين بلغ عددهم 135859 عضواً في عام 2011، تعرضوا لفحص أعمالهم وثرواتهم وصدرت ضدهم أحكام وفقاً لما ارتكبوه من أخطاء أو جرائم فساد.
خبير في الدراسات والشؤون الصينية