أجلس وأنا أكتب هذه السطور في أستوديو إذاعة البحرين بعد أن انتهيت للتو من قراءة نشرة الأخبار المفصلة، وأمامي نسخة من جدول الفترات الإخبارية للشهر الجاري، وهو آخر جدول ذيلت نهايته بتوقيع مشرفة وحدة المذيعين الراحلة كريمة الزيداني، وبجانبها نسخة من جدول برنامج البحرين كل مساء، الذي كان من المفترض أن تقدم الراحلة أسبوعين منه في الفترة من 10 إلى 14 ومن 24 إلى 28 أبريل، لولا أن سبقت مشيئة الله، وعادت نفس كريمة المطمئنة إلى ربها راضية مرضية بإذن الله تعالى.
أجلس وحيداً وكأني بها تدخل علي بخطواتها التي أصبحت متثاقلة مؤخراً، كي تطمئن أن كل شيء يسير على ما يرام، نعم إنها القديرة الراحلة كريمة طاهر الزيداني التي ظلت محبة لعملها الإعلامي مخلصة له بتفان غريب لم أر نظيراً له، فهي ورغم صدمتها القوية بوفاة والدتها رحمها الله قبل نحو أسبوعين، التي سببت تدهوراً في حالتها الصحية، أدخلت على إثرها المستشفى، كانت وفية لعملها ورسالتها، فمن داخل غرفة المستشفى -كما يحكي أقاربها- حرصت على وضع جدول مقدمي النشرات الإخبارية ومن على سرير المرض كانت تتصل بالمذيعين لتخبرهم بفتراتهم، وظلت تمارس عملها الإعلامي حتى جاءت لحظة الرحيل إلى دار البقاء، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
يشهد كل من عمل مع الراحلة سواء من جيل الرواد أو ممن التحق حديثاً بالعمل الإعلامي، أنها كانت حمامة سلام هادئة باسمة، ومنذ التقيت بها وشرفت أن قدمت معها برنامج «صباح الخير يا بحرين» التلفزيوني قبل 13 عاماً، لم أرها قط في حالة غضب أو سمعت لها صوتاً مرتفعاً أو شهدت لها خلافاً مع زميل، كانت كريمة في أخلاقها، راقية في تعاملها، بسيطة وعفوية وقنوعة ومتواضعة رغم تاريخها الحافل، ملتزمة بعملها، دقيقة في مواعيدها، قريبة من الجميع، لا تحمل حقداً أو عداء لأحد، ولم يحمل لها أحد العداء، أقول هذا بصدق وهي صفات نادرة في زماننا هذا.
ولأنها كانت كذلك، ولم تكن تسعى لتحقيق مكاسب شخصية، فلقد عانت رحمها الله من أوضاع مؤسفة تجسد واقعاً وهو سوء أحوال الإعلاميين في البحرين بشكل عام، فمن يصدق أن كريمة الزيداني بمسيرتها الإعلامية التي وصلت لأربعين عاماً، والتي تعد رائدة من رواد الإعلام التليفزيوني والإذاعي الخليجي وأحد مؤسسي تلفزيون البحرين منذ انطلاقته كمؤسسة حكومية في عام 1975، كانت على الدرجة الوظيفية العاشرة في الجدول الوظيفي!! نعم رائدة مذيعات الخليج بكل تلك الصفات الإنسانية والمهنية والتاريخ الحافل على الدرجة العاشرة، لماذا؟! لأن الكادر الإعلامي الحالي لا يسمح بإعطائها أكثر من ذلك بمسماها كمشرف وحدة المذيعين!!
أذكر جيداً حديثي معها قبل نحو شهرين، كانت هي -وحالتها الصحية لم تكن جيدة كما يعلم الجميع منذ سنوات عديدة- في فترة مناوبة تمتد من الثامنة مساء حتى منتصف الليل، وكنت أنا مقدم نشرة الأخبار في نفس الفترة، قالت رحمها الله: «أحلم فقط أن أستريح، تعبت من زحمة وضغط العمل مع حالتي الصحية، ولكن ما العمل بنموت وإحنا ننتظر الكادر الإعلامي صار لنه عشرين سنة ننتظره ولا جفناه، تغيرت إدارات ووزراء والكادر ما وصل»، ولأنها رحمة الله عليها ليست ممن يكثرون التذمر، كانت تقول ذلك بابتسامة وسخرية وتضيف «أحلم بس يعدلون أوضاعنه قبل التقاعد علشان أقدر أرتاح شوي، ما راح أوقف قراءة نشرات الإخبار لأني أحب أقراها وما أتصور نفسي ما أقرأ الأخبار في الإذاعة، بس على الأقل أخفف الشغل شوي»، والله كانت هذه كلماتها وأذكرها جيداً في نفس الأستوديو الذي أجلس فيه الآن، وأكاد أشعر أن نشرة الأخبار اشتاقت للمغفورة لها بإذن الله تعالى كريمة الزيداني.
شريط إخباري:
هيئة الإذاعة والتلفزيون مليئة برواد وأكفاء ممن هم في مثل حال الراحلة، ورغم أن تلفزيون البحرين بدأ بثه عام 1973، وهو أول تلفزيون ملون في منطقة الخليج، ورغم التاريخ الطويل والعريق للإعلام الرسمي المؤسسي الذي يعود إلى عام 1940 حيث انطلاق أول بث إذاعي، وافتتاح مبنى إذاعة البحرين اللاسلكية في 21 يوليو 1955، رغم ذلك كله، لا يوجد خصوصية للمهنة ولا كادر وظيفي منصف ولا تأمين صحي أو تقدير، بحيث أصبح الخيار أمام الإعلامي البحريني إما الهرب وترك العمل الإعلامي لتحسين وضعه المعيشي، وإما أن يظل حبيس تلك الأوضاع، في ظل مستقبل غير واضح المعالم، وإحباط ناتج عن سنوات من التخبط وغياب الرؤية وتكرار الوعود بما خلق بيئة عمل سلبية عانى منها الجميع، وهو واقع لا تتحمله رئاسة الهيئة أو الإدارة الحالية فهو نتاج تراكم لسنين عجاف، يأمل الإعلاميون البحرينيون أن تنتهي المعاناة قريباً خاصة مع ما يصل إلينا من سعي وزيرة الدولة لشؤون الإعلام السيدة سميرة رجب لإقرار كادر إعلامي عصري ومنصف، نقول ذلك ونتمنى أن يأتي القرار من القيادة الحكيمة، في زمن أصبح فيه الإعلام خط الدفاع الأول عن الأوطان.