لو اخترت أهم عشرة كتب عن القضية الفلسطينية، موضوعاً وتوثيقاً، لكان بينها كتابا بنت القدس الدكتورة نائلة الوعري «دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين 1840-1914» الصادر عن دار الشروق في عمان سنة 2007، و»موقف الولاة والعلماء والأعيان والإقطاعيين في فلسطين من المشروع الصهيوني 1856-1914» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت سنة 2012.
لا أستطيع أن أنصف الكاتبة والكتابين في عجالة صحافية، واعترف بأنني لم أكن أعرف عن الدكتورة الوعري سوى اسمها وأنها تحمل جنسية البحرين إضافة إلى هويتها الفلسطينية، وأزيد اليوم أنها باحثة من القدس تقيم الآن في البحرين، وكتابها عن موقف الولاة والعلماء والأعيان والإقطاعيين أساسه رسالة دكتوراه أشرف عليها البروفسور حسان حلاق.
كتاب «دور القنصليات الأجنبية» في 403 صفحات تبدأ الملاحق فيه والوثائق وصور الرسائل من الصفحة 289، أما الكتاب الثاني فهو في 564 صفحة تبدأ ملاحقه والوثائق مع صور الرسائل في الصفحة 421.
الاستيطان اليهودي في فلسطين بدأ قبل المؤتمر الصهيوني الأول في بازل والمؤلفة تسجل أن قناصل بريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا والنمسا حاولوا بالضغط والرشوة وكل وسيلة أخرى تسهيل دخول اليهود فلسطين. تيودور هرتزل قال في مذكراته الصادرة سنة 1895 إن اليهود سيحاولون في فلسطين «تشجيع السكان من الفقراء على الهجرة إلى البلدان المجاورة وذلك بتأمين أشغال لهم هناك ورفض إعطائهم أي عمل في بلادنا. أما أصحاب الأملاك فسيكونون معنا». أقول إنها بلادنا وليست بلادهم.
غالبية الزعماء الفلسطينيين في القدس والمدن الكبرى وقفوا ضد الخطر الصهيوني وكتبوا، ولكن كان هناك من الملاكين، خصوصاً الأجانب، من باع لليهود، والكتاب الثاني يوضح حجم البيع بالمساحة والمكان والسعر والتاريخ، ما يستحيل إنكاره، وهنا يبدو أن أكبر الملاكين في فلسطين كانوا من آل سرسق، وهم تجار، باعوا لليهود وبعدهم في الملكية آل عبدالهادي الذين باعوا أيضاً وإنما بنسبة أقل.
إن كان هناك من بطل في مقاومة بيع الأراضي لليهود فهو السلطان عبدالحميد الثاني الذي تآمر عليه اليهود مع حكومة الاتحاد والترقي حتى عزل سنة 1909 لأنه رفض إطلاقاً بيع الأراضي لليهود، بل منع دخولهم فلسطين باستثناء الزيارة ولمدة ثلاثة أشهر فقط.
رأي السلطان العثماني ضمنه رسالة منه قال فيها: «لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم وغذوها فيما بعد بدمائهم، وسنغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا.. لا أستطيع أبداً أن أعطي أحداً أي جزء منها. ليحتفظ اليهود ببلايينهم فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود عليها من دون مقابل، إنما لن تقسم إلا على جثثنا...»
عرفت أراضي الدولة باسم «الجفتلك السلطاني» وكانت الأكبر مساحة فقد بلغت 2.5 مليون دونم، وبعدها أملاك الإقطاعيين من فلسطينيين وعرب الجوار الذين باع بعضهم أرضهم، بالتحايل على القرارات السلطانية التي تمنع البيع.
كان السلطان بطل المقاومة، أما الأشرار الحقيقيون، مع الملاكين، فكانوا القناصل الأجانب، فهم إما أيدوا الهجرة اليهودية إلى فلسطين بعد أن رشاهم أثرياء اليهود في أوروبا، أو كانوا يريدون أن يرحل اليهود عن أراضيهم، فأوروبا القرن التاسع عشر كانت تختلف على كل شيء وتتفق على أمر واحد هو اللاسامية التي انتهت بالمحرقة النازية في القرن التالي.
لا أستطيع أن أزيد على معلومات الدكتورة الوعري فأختتم برأي هو أن ألمانيا دفعت تعويضات لضحايا المحرقة بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. وأرى أن بريطانيا والدول الأوروبية الكبرى يجب أن تدفع تعويضات للفلسطينيين عن تواطؤها في سرقة بلادهم. عندما كانت بريطانيا بحاجة إلى أموال اليهود في الحرب العظمى (الأولى) صدر وعد بلفور سنة 1917، وعندما كانت بحاجة إلى تأييد العرب ضد ألمانيا سنة 1939 صدرت الورقة البيضاء التي أعلنت أن وعد بلفور لم يعد سياسة الحكومة البريطانية. نحن اليوم مثل الأوروبيين في القرن التاسع عشر لا نتفق على شيء سوى أن تكون الهزيمة سياستنا.
عن جريدة «الحياة»