لا مزايدة على وطنية تيار الفاتح، من حضر تجمع 2013 أثبت وطنيته، ومن لم يحضر سجل موقفاً وطنياً يحتسب له.
تابعت النقاشات والسجالات التي دارت بين أهل الفاتح بشأن الدعوة لحضور تجمع عراد الأخير، كان نقاشاً صريحاً أعلن فيه فريق عزمه الحضور، والتحشيد ليثبت تواجده وعدده الذي يتناساه الآخرون بين وقت وآخر، وأعلن فريق آخر رفضه أن يتحول إلى مجرد رقم أو شيء يستدعى في كل مرة ثم يركن جانباً إلى حين الحاجة إليه، كانت النقاشات علنية طال النقد فيها، من كلا الفريقين، جمعيات «ائتلاف الفاتح»، وخصوصاً جمعية «تجمع الوحدة الوطنية»، وطال الحكومة دون تردد أو نفاق، ثم حضر من حضر، وغاب من غاب لأسباب وطنية، لقد أثبت تيار الفاتح في نقاشاته أنه تيار مستقل، لا تحركه حكومة، ولا رمز وطني أو ديني، أثبت أن قراراته تنبع من قرارة نفسه، ومن قناعة فكره، وليس كالآخرين الذين يمنوننا بالديمقراطية والحرية وتداول السلطة وشعارهم في كل هذا «لبيك يا فقيه» .
عبقرية تيار الفاتح «الذي يصفه البعض أنه حفنة من المأجورين والمأمورين والمجنسين والمرتزقة» تتجلى كل مرة في إجماع غير منظم، وغير موجه، كان آخرها التمرد على الإضراب الإلزامي الذي ضربته عناصر «14 فبراير»، يوم الخميس 14 فبراير 2013 على شعب البحرين بإغلاق الشوارع وإحراق الإطارات، ومنع أهل القرى من الخروج منها، وإغلاق المدارس ورميها بالمولوتوف، كي يلزم الجميع منزله قسراً، تمرد الفاتح وتحدى النيران والعصابات، والتزم بدوامه، وقضى ليلة الجمعة في الشوارع والمجمعات متحدياً حرب النيران التي يجابه بها.
عبقرية تيار الفاتح تجلت أول مرة عندما تداعوا من كل صوب ومن كل الفئات لتجمع الفاتح الأول وهم لا يعرفون مصدر النداء وغايته، تداعوا وتجمعوا ليقولوا كلمة واحدة فقط «الشعب لا يريد إسقاط النظام»، وذلك حين خرج البعض وقال «أنا الشعب وأنا أريد» دون أن يستشير أحداً أو ينسق معه، كان العدد هنا جوهرياً أذهل من كان يفاوض على أمن البحرين واستقلالها، وعطل المشروع، الذي ورد في تقرير د. بسيوني، الذي توسطت فيه قوى خارجية لتسليم الحكم للمعارضة، هذا العدد حفظ البحرين من السقوط وحفظ البحرين من مصير مجهول، والمنصة التي حملت رجال الدين سنة وشيعة وبهرة إلى جانب قس المسيحيين، وممثل اليهود، أعادت رسم خرائط الدول الكبرى وتفاهماتها لتحديد مفهوم التمثيل الشعبي الحقيقي ولإعادة تعريف مصطلح «الشعب».. أليست تلك عبقرية ؟!!
عبقرية تيار الفاتح تجلت مرة أخرى حين هددت الدولة البحرينية وأعلن الإضراب العام في 2011 وأغلقت المدارس وحوصرت المناطق وقطعت الشوارع، خرج أبناء البحرين دون توجيه أو تنظيم أو تخطيط مسبق للتطوع في مؤسسات الدولة، بعض المتطوعين كانوا يعملون في القطاع الخاص وطلبوا إجازة، نسبة كبيرة من المتطوعين كانوا متقاعدين، وبعضهم كان يشغل مناصب رفيعة سابقة في الدولة، مثل وكيل مساعد سابق!!
كانت هبة شعبية فاعلة أصابت رموز «14 فبراير» بالدوار، كانوا يجهلون تلك الروح المقاومة الكامنة في وجدان أهل الفاتح!!
هبّة أخرى منسية لم يسلط الضوء عليها كثيراً، فبعد انتهاء انقلاب فبراير وعودة الدراسة التي علقت، أسس مشروع لتعويض الطلبة عما فاتهم من دروس وما سيحرمون من الحصول عليه بسلاسة نتيجة ضغط الفصل الدراسي، فتطوع المعلمون وأغلبهم معلمات، أعلنوا عن استعدادهم لتعليم البنين، لإعطاء دروس مساندة مسائية مجانية. هنا العدد لم يعد رقماً جامداً، بل صار عدداً نوعياً فاعلاً ومؤثراً ومحركاً، أليست تلك عبقرية؟!!
عبقرية الفاتح تجلت كثيراً في 2011، منها أخيراً وليس آخر، حين بدأت خطة فبراير «ج» لنشر الإرهاب والفوضى في البلاد وانتشرت العصابات «التي أثبتها تقرير د. بسيوني»، واقتحمت المناطق السكنية واعتدت بشكل طائفي وعنصري على بعض أهل تلك المناطق، وكانت العديد من المنازل تخلو من الرجال الذين كانوا قيد الطوارئ في صفوف الداخلية أو قوة دفاع البحرين، هنا هب شباب الفاتح ليشكلوا لجاناً شعبية، نسقت عملها في مختلف مناطق البحرين، هذه اللجان لم تكتف بالحماية الأمنية التي كانت أساسية، بل درست الوضع اللوجستي في حال تدهور الأوضاع الأمنية، وتمادي تلك العصابات، فشكلوا غرف عمليات تواصلت مع أهل المناطق السكنية في تخطيط دقيق، ووضعوا خططاً تموينية في حال نقص الطعام أو قطع الكهرباء، بل شكلوا عيادات طبية طارئة، وحددوا نقاط تجمع في حال حدوث أي مكروه، وقد كفانا الله بفضله شر تلك المكاره، أليست تلك عبقرية ؟!
هذه العبقرية، للأسف، لم تجد رعاية المستوى المطلوب، ولم تلق تجاوباً من جمعيات «ائتلاف الفاتح». وسأخص الجمعيات بالحديث، لأن التردد الأخير عن حضور تجمع عراد يرجع بالدرجة الأولى إلى تقصير جمعيات الائتلاف في قدرتها تمثيل الشارع تمثيلاً حقيقياً، وعن عجزها عن الجهر بمطالب الفاتح وبالمنافحة عنها، فقد دخلت الجمعيات الحوار مؤخراً دون أن تتواصل مع قواعدها الشعبية «التي ستتوالى عليها تباعاً تطرق الأبواب باباً باباً في الانتخابات»، ودون أن تعقد اجتماعات ولقاءات مع المواطنين، تعلن لهم فيها عن برنامجها للحوار، وعن مبادئها التي ستتحاور بشأنها، وعن سقفها وشروطها.
إن قطيعة الجمعيات لقواعدها الشعبية وسلوكها المتعالي معهم استحق الرد القاسي من شارع الفاتح، وهو ما يحتم على تلك الجمعيات أن تعيد حساباتها وتقيم مواقفها، فلو أن جمعياتنا «الموقرة» عقدت لقاءات مبرمجة مع المواطنين لمناقشة وثائق الحوار ومواده المتفق عليها بينها والتي ستطرحها في جلسات «محمية العرين»، ولو أنها شرحت لمواطنيها مواقفها السياسية من مطالب الفاتح والمعارضة ومبرراتها ومسوغاتها وبدائلها لبعض القضايا، ولو أنها استعانت بذوي الخبرة والكفاءة من المستقلين من أهل الفاتح، من أجل خلق توافق شعبي على مستوى القواعد، ثم دعت لتجمع عراد، تأكيداً على دعم الشارع لمطالب الفاتح، وتعزيزاً لموقف الائتلاف في مواجهة الحكومة والمعارضة، لرأينا زحفاً تاريخياً مختلفاً، لكن الحشد الذي حضر مهما بلغ عدده فإنه لم يكن إلا تمثيلاً لرقم قياسي أكبر، 300 ألف من جميع المذاهب والطوائف، العدد لم يتبدد ولم يتسرب إلى كتل أخرى بل هو باق ومدخر، وعبقرية تيار الفاتح غير المسيرة وغير المنظمة تعرف كيف تستغله وكيف تحركه.
نقاشات تيار الفاتح حول عراد 2013، ومنطق الحضور والغياب عبقرية وطنية ثابتة، ووعي متجدد يستحق التقدير، فقد أثبت هذا التيار أنه تجاوز لحظة فبراير المتأزمة، وأنه يسعى إلى بناء بحرين ما بعد المؤامرة، ويسعى إلى إنهاء مرحلة الخوف من المشاريع الخارجية والتدخلات الإقليمية، إلى طرح مشروع وطني قادر على لفظ كل جسم غريب، أو فكر مشوه، وقادر على تأسيس دولة الموطنة المدنية، خارج المحاصصات الفئوية ومطالب الخصوصية المذهبية أو المناطقية، هذا التيار ينتظر خطاباً بحجم وعيه أو متقدماً عليه فقد سئم الشعارات، وعرف كيف يقيمها، وفرز الشخصيات وعرف مواقفها، وسيبقى تيار الفاتح ممثلاً للوحدة الوطنية الحقيقية، والمدافع عن النظام والدولة، وسيبقى ينتظر من يستثمر عبقريته التي سيثبتها مراراً من أجل البحرين وحماية للبحرين.