الأرقام لا تكذب..
الرئيس تمام سلام، المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية المقبلة حصل على رقم قياسي من ترشيحات نواب البرلمان خلال الاستشارات الملزمة دستورياً التي أجراها الرئيس اللبناني ميشال سليمان بلغ 124 ترشيحاً من 128 نائباً.
قياديان اثنان فقط امتنعا عن ترشيح سلام، هما النائبان ميشال عون وسليمان فرنجية. وهما سياسيان مارونيان متحالفان بصورة تكتيكية حالياً، وما كانا كذلك عندما كان عون يرفع جرعات مناوأة النظام السوري متجاوزاً حتى خط البطريرك الماروني، في حين يرتبط فرنجية بعلاقات صداقة عائلية وسياسية تاريخية مع آل الأسد وحكام سوريا قبل بدء الحكم الوراثي لآل الأسد.
من حيث القراءة السياسية الجادة لظروف ترشيح سلام وتبعاته لا يستحق موقفا عون وفرنجية التوقف عندهما طويلاً لأن الوزن السياسي للرجلين ضئيل نسبياً. وبناء عليه فإن إحجامهما عن «تسليف» الرئيس المكلف لفتة حسن النية لا يقدم ولا يؤخر. ولكن بعكس ذلك، ينبغي قراءة ممثلي الكتلة الشيعية الوازنة بدقة، لاسيما أنها تستند إلى قوة السلاح والكثافة السكانية والصلات الإقليمية الوثيقة.
لقد حرص ركنا الكتلة الشيعية، «حزب الله» و«حركة أمل»، على تسمية سلام وسط تلميحات إلى وجود رغبة لديهما في تسهيل مهمته في التكليف، ولكن من دون التخلي عن شرط التزام الحكومة العتيدة بمثلث «الجيش والشعب والمقاومة». وهذا يعني ضرورة تغاضي هذه الحكومة عن احتفاظ «حزب الله» بهيمنته الميدانية على الساحة اللبنانية خارج سلطة الدولة. وهو ما رد عليه الرئيس سلام بلباقة بقوله إنه «يؤمن بأن قرار الحرب والسلم يجب أن يكون حقاً حصرياً للدولة».
وهكذا بين «نوبة حسن النية» المتمثلة بترشيح الكتلة الشيعية سلام، وتأكيد الأخير إيمانه بحق الدولة الحصري في قرار الحرب والسلم، يضيع اللبنانيون في التفاصيل.. التي تستبعد حسم عملية التأليف بالسرعة المرجوة في ظل أوضاع داخلية معيشية سيئة وأوضاع خارجية أمنية تفجيرية.
أساساً، استقالت الحكومة السابقة التي كانت قد شكلت في ظل واقع غلبة السلاح، والإسقاط الانقلابي الكيدي لسابقتها، لأن المعطيات داخل لبنان ما عادت تتيح لزعيم سني بأن يظل «شاهد زور» على مصادرة الدور التمثيلي -الوفاقي- التحكيمي للسلطة. وكذلك لأنه ما عاد متيسراً التستر بكلمات مثل «النأي بالنفس» للإخفاق في حماية لبنان من تداعيات المحنة السورية.
وعلى الرغم من مرونة نجيب ميقاتي وصبره وعلاقاته الطيبة مع عدد من المرجعيات العربية، فإنه وجد نفسه محاصراً بغالبية وزارية تنتمي لقوى «8 آذار»، بقيادة «حزب الله» الذي يشارك فعلياً في القتال داخل الأراضي السورية. كذلك وجد نفسه عاجزاً عن وقف حركة صهاريج الوقود من سوريا وإليها في انتهاك علني للموقفين العربي والدولي، وممنوعاً من المحافظة على التوازنات في تركيبة الأجهزة الأمنية اللبنانية.
وهكذا، في نهاية المطاف «أحرج ميقاتي فأخرج». وفضل «حزب الله» وأتباعه التخلي عن «غطاء شرعي» مناسب لمشروع «الحزب»، على التعايش اضطرارياً مع واقعين داخلي وإقليمي يمكن أن يوهنا قبضته الممسكة بالأمن في لبنان، وعبر حدوده مع سوريا.
ماذا الآن؟
الآن هناك عدة عوامل ليس باستطاعة الرئيس المكلف تمام سلام إغفالها، ولا باستطاعة «حزب الله» من حيث كونه القوة الموازية -بل المناقضة- للدولة اللبنانية تجاوزها، أبرزها:
أولاً: تأثير الوضع السوري على الداخل اللبناني. فالنظام السوري اليوم، ومن خلفه «المشروع الإيراني» الكبير، ما عاد يتمتع بالقدرة ذاتها على المناورة كتلك التي كان يتمتع بها قبل مارس 2011. ويتذكر اللبنانيون جيداً كيف كان بشار الأسد يستدعي زواراً من الشخصيات اللبنانية السنية إلى دمشق.. ليعودوا منها ويطمئنوا الشارع أن «المسألة انتهت» و«كل شيء في سوريا على ما يرام»!
ثانياً: بلغ الفرز النفسي في الساحة اللبنانية، ولاسيما بين مكونات الغالبية المسلمة، بل حتى ضمن الطائفة السنية مرحلة تستوجب اليقظة. ومن ثم، فإن حرب «حزب الله» على الاعتدال السني في لبنان غدت خياراً شمشونياً، أي انتحارياً. وذلك لأن القوى الأصولية السنية التي يرغب «الحزب» -ومن ورائه طهران- أن ترث نفوذ القوى السنية المعتدلة، وتتحول إلى فزاعة يسهل معها ابتزاز المجتمع الدولي وتخويفه.. لن تكون مضمونة الضبط مستقبلاً.
ثالثاً: دخول مقامرة النظام السوري في موضوع الأقليات، بعدما نجح في استدعاء نماذج أصولية سنية إلى الداخل السوري بهدف التخويف طائفياً والابتزاز دولياً، مرحلة جدية على صعيد التطهير الطائفي - الفئوي. وهذا ما يحصل في أنحاء متعددة من شمال سوريا، وغرب محافظة حماه، ومرتفعات الشمال الغربي «جبل الزاوية وجبل الأكراد وجبل التركمان» وطبعاً.. محيط حمص. وما انكشف أخيراً من حرص على زرع الفتنة عبر عملاء مكشوفين -سوريين ولبنانيين وفلسطينيين- بين جبل حوران الدرزي وسهلها السني امتداداً إلى منحدرات جبل الشيخ في محافظة القنيطرة ومحيط قطنا وضواحي العاصمة دمشق.
رابعاً: اتضاح مدى التورط الفعلي لـ«حزب الله» وجماعات لبنانية أخرى في القتال الدائر في سوريا، بعدما ظل مساجلات وتهماً يصعب التأكد منها. وهذا واقع لابد أن يفرض إعادة تعريف مصطلحات «النأي بالنفس» و«سلاح المقاومة» و«قرار الحرب والسلم».
خامساً: إخفاق القيادات المسيحية في لبنان، مع الأسف، في لعب الدور التاريخي المطلوب منها في إعادة تعريف دور الحضور المسيحي وتفعيل تأثيره الإيجابي في الشرق الأدنى. ولا سيما أن هذا الحضور يتمتع بأكبر قدر من الاستفادة في ظروف السلم، ويدفع أبهظ الأثمان في ظروف الحرب والاقتتال. على المسيحيين اليوم، التعالي على الجروح العابرة، ولعب دور نشط في تأكيد ضرورة حضورهم وتفاعلهم مع بيئتهم، فهم ليسوا ضيوفاً ولا سياحاً في المنطقة. وهذا المسار يبدأ في لبنان عبر قانون انتخابات عادل وعاقل، وفي سوريا عبر دور نشط للجم عربدة النظام ورهانه على التقسيم.
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية
الرئيس تمام سلام، المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية المقبلة حصل على رقم قياسي من ترشيحات نواب البرلمان خلال الاستشارات الملزمة دستورياً التي أجراها الرئيس اللبناني ميشال سليمان بلغ 124 ترشيحاً من 128 نائباً.
قياديان اثنان فقط امتنعا عن ترشيح سلام، هما النائبان ميشال عون وسليمان فرنجية. وهما سياسيان مارونيان متحالفان بصورة تكتيكية حالياً، وما كانا كذلك عندما كان عون يرفع جرعات مناوأة النظام السوري متجاوزاً حتى خط البطريرك الماروني، في حين يرتبط فرنجية بعلاقات صداقة عائلية وسياسية تاريخية مع آل الأسد وحكام سوريا قبل بدء الحكم الوراثي لآل الأسد.
من حيث القراءة السياسية الجادة لظروف ترشيح سلام وتبعاته لا يستحق موقفا عون وفرنجية التوقف عندهما طويلاً لأن الوزن السياسي للرجلين ضئيل نسبياً. وبناء عليه فإن إحجامهما عن «تسليف» الرئيس المكلف لفتة حسن النية لا يقدم ولا يؤخر. ولكن بعكس ذلك، ينبغي قراءة ممثلي الكتلة الشيعية الوازنة بدقة، لاسيما أنها تستند إلى قوة السلاح والكثافة السكانية والصلات الإقليمية الوثيقة.
لقد حرص ركنا الكتلة الشيعية، «حزب الله» و«حركة أمل»، على تسمية سلام وسط تلميحات إلى وجود رغبة لديهما في تسهيل مهمته في التكليف، ولكن من دون التخلي عن شرط التزام الحكومة العتيدة بمثلث «الجيش والشعب والمقاومة». وهذا يعني ضرورة تغاضي هذه الحكومة عن احتفاظ «حزب الله» بهيمنته الميدانية على الساحة اللبنانية خارج سلطة الدولة. وهو ما رد عليه الرئيس سلام بلباقة بقوله إنه «يؤمن بأن قرار الحرب والسلم يجب أن يكون حقاً حصرياً للدولة».
وهكذا بين «نوبة حسن النية» المتمثلة بترشيح الكتلة الشيعية سلام، وتأكيد الأخير إيمانه بحق الدولة الحصري في قرار الحرب والسلم، يضيع اللبنانيون في التفاصيل.. التي تستبعد حسم عملية التأليف بالسرعة المرجوة في ظل أوضاع داخلية معيشية سيئة وأوضاع خارجية أمنية تفجيرية.
أساساً، استقالت الحكومة السابقة التي كانت قد شكلت في ظل واقع غلبة السلاح، والإسقاط الانقلابي الكيدي لسابقتها، لأن المعطيات داخل لبنان ما عادت تتيح لزعيم سني بأن يظل «شاهد زور» على مصادرة الدور التمثيلي -الوفاقي- التحكيمي للسلطة. وكذلك لأنه ما عاد متيسراً التستر بكلمات مثل «النأي بالنفس» للإخفاق في حماية لبنان من تداعيات المحنة السورية.
وعلى الرغم من مرونة نجيب ميقاتي وصبره وعلاقاته الطيبة مع عدد من المرجعيات العربية، فإنه وجد نفسه محاصراً بغالبية وزارية تنتمي لقوى «8 آذار»، بقيادة «حزب الله» الذي يشارك فعلياً في القتال داخل الأراضي السورية. كذلك وجد نفسه عاجزاً عن وقف حركة صهاريج الوقود من سوريا وإليها في انتهاك علني للموقفين العربي والدولي، وممنوعاً من المحافظة على التوازنات في تركيبة الأجهزة الأمنية اللبنانية.
وهكذا، في نهاية المطاف «أحرج ميقاتي فأخرج». وفضل «حزب الله» وأتباعه التخلي عن «غطاء شرعي» مناسب لمشروع «الحزب»، على التعايش اضطرارياً مع واقعين داخلي وإقليمي يمكن أن يوهنا قبضته الممسكة بالأمن في لبنان، وعبر حدوده مع سوريا.
ماذا الآن؟
الآن هناك عدة عوامل ليس باستطاعة الرئيس المكلف تمام سلام إغفالها، ولا باستطاعة «حزب الله» من حيث كونه القوة الموازية -بل المناقضة- للدولة اللبنانية تجاوزها، أبرزها:
أولاً: تأثير الوضع السوري على الداخل اللبناني. فالنظام السوري اليوم، ومن خلفه «المشروع الإيراني» الكبير، ما عاد يتمتع بالقدرة ذاتها على المناورة كتلك التي كان يتمتع بها قبل مارس 2011. ويتذكر اللبنانيون جيداً كيف كان بشار الأسد يستدعي زواراً من الشخصيات اللبنانية السنية إلى دمشق.. ليعودوا منها ويطمئنوا الشارع أن «المسألة انتهت» و«كل شيء في سوريا على ما يرام»!
ثانياً: بلغ الفرز النفسي في الساحة اللبنانية، ولاسيما بين مكونات الغالبية المسلمة، بل حتى ضمن الطائفة السنية مرحلة تستوجب اليقظة. ومن ثم، فإن حرب «حزب الله» على الاعتدال السني في لبنان غدت خياراً شمشونياً، أي انتحارياً. وذلك لأن القوى الأصولية السنية التي يرغب «الحزب» -ومن ورائه طهران- أن ترث نفوذ القوى السنية المعتدلة، وتتحول إلى فزاعة يسهل معها ابتزاز المجتمع الدولي وتخويفه.. لن تكون مضمونة الضبط مستقبلاً.
ثالثاً: دخول مقامرة النظام السوري في موضوع الأقليات، بعدما نجح في استدعاء نماذج أصولية سنية إلى الداخل السوري بهدف التخويف طائفياً والابتزاز دولياً، مرحلة جدية على صعيد التطهير الطائفي - الفئوي. وهذا ما يحصل في أنحاء متعددة من شمال سوريا، وغرب محافظة حماه، ومرتفعات الشمال الغربي «جبل الزاوية وجبل الأكراد وجبل التركمان» وطبعاً.. محيط حمص. وما انكشف أخيراً من حرص على زرع الفتنة عبر عملاء مكشوفين -سوريين ولبنانيين وفلسطينيين- بين جبل حوران الدرزي وسهلها السني امتداداً إلى منحدرات جبل الشيخ في محافظة القنيطرة ومحيط قطنا وضواحي العاصمة دمشق.
رابعاً: اتضاح مدى التورط الفعلي لـ«حزب الله» وجماعات لبنانية أخرى في القتال الدائر في سوريا، بعدما ظل مساجلات وتهماً يصعب التأكد منها. وهذا واقع لابد أن يفرض إعادة تعريف مصطلحات «النأي بالنفس» و«سلاح المقاومة» و«قرار الحرب والسلم».
خامساً: إخفاق القيادات المسيحية في لبنان، مع الأسف، في لعب الدور التاريخي المطلوب منها في إعادة تعريف دور الحضور المسيحي وتفعيل تأثيره الإيجابي في الشرق الأدنى. ولا سيما أن هذا الحضور يتمتع بأكبر قدر من الاستفادة في ظروف السلم، ويدفع أبهظ الأثمان في ظروف الحرب والاقتتال. على المسيحيين اليوم، التعالي على الجروح العابرة، ولعب دور نشط في تأكيد ضرورة حضورهم وتفاعلهم مع بيئتهم، فهم ليسوا ضيوفاً ولا سياحاً في المنطقة. وهذا المسار يبدأ في لبنان عبر قانون انتخابات عادل وعاقل، وفي سوريا عبر دور نشط للجم عربدة النظام ورهانه على التقسيم.
نقلاً عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية