قال الشاعر بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده:
«يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وأنشد جرير يقول:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله أركانا».
الأبيات من قصائد سائدة ومعروفة وكتبها كثيرون في رسائلهم لمعشوقاتهم، وطالما كانت مدخلاً لدعابة بين عاشق ومعشوقته عندما يريد أن يمتحنها ويعرف عنها ما تجهله العين، فيلجأ للأذن على أنها كشفت له سراً كان خفياً على كثيرين ممن حاولوا أن يستوطنوا قلب تلك المعشوقة وكانت عصية عليهم.
حدثني والدي في جلسات كانت تجمعنا يومياً قبل وفاته في بداية السبعينات، بعد كل غدوة نتنحى جانباً في غرفتي وتجهز لنا الوالدة فناجين القهوة وأكواب الشاي والتمر، ونبدأ نحن الاثنان بنبش ذاكرة الأولين سواء في رحلات الغوص أو بعد القفال والتوجه إلى أفريقيا للتجارة أو إلى البحر، ولكن ليس بغرض الصيد بل قطع الحصة «الفروش» وكانت تستخدم في بناء البيوت ميسورة الحال، وهي من التسجيلات النادرة التي مازلت أحتفظ بها في مكتبتي.
كنت أعشق حديثه عن الغوص والغزل عند العين بين شباب ذاك الزمن وبراءتهم في أن يتحاوروا بالقصائد التي تخرج بكل عفوية ويحفظوها عن ظهر قلب رغم أميتهم، حيث تمرسوا في الإلقاء والتفنن في مخارج الحروف وإتقانهم للغة العربية الأم وحفظ كل ما تلتقطه آذانهم من أبيات شعر أو مواويل وحتى «الزهيريات» و»النهمة» التي كانت تسليتهم الوحيدة بعد ساعات الغوص وركوب خطر الحصول على المحار، ولعلهم لا ينسون ليالي الغوص ولذلك تجدهم في كل سوالفهم وما أن تفتح صفحات الذاكرة، حتى تجد الواحد منهم يتحدث وبكل فخر عن أيام وليال عاشها في البحر على ظهر السفينة، والكل كما كان يردد شادي الخليج «ها نحن عدنا ننشد الهولو على ظهر السفينة «، وهو ما استفاده هؤلاء الرجال من أغاني «النهمة» في رحلات الغوص.
يتذكر الوالد بعض هذه الأبيات ويبدأ ينشدها في صوت يمتزج بالحزن والأسى، وتستشعر منه المعاناة التي كانوا يعانونها ومدى اتكالهم على خالقهم جل وعلا في أن تمر الرحلة دون أن يفقدوا صديقاً عزيزاً عليهم، ويعود الجميع إلى أرض الوطن:
الله يا الله يا الله أطلب رضاك خالقي
من يوم رجعوا عمامي
جفت عيوني منامي
عطشان والهوى ظامي
من شافني قال لا حول
لا حول يا وليد عمبر
يا مواصل البيض بالشامي
لسمر سباني بدله
عقلي وروحي فداً له
في حين يتذكر أن هناك على سواحل الديرة تنتظرهم النساء لتنشد مرحبات بمن حضر بعد رحلة المخاطر:
توب توب يابحر
أربعة والخامس دخل
ما تخاف من الله يا بحر
يتمت وليدي يا بحر
ويانوخذاهم لا تصلب عليهم
ترى حبال الغوص قطع أيديهم
كنت أعشق الجلوس مع الوالد واستماعه وهو يلقي القصيدة أو الأبيات بطريقة المواويل، وكانت تروي حكايا كثيرة عن فنون الغزل والمعاناة عند العاشق من طرف واحد لبنت الحي الفتنة التي «خديت» رجالاتها ولم تتبادل مع أي منهم حتى ابتسامه تشفي غليله.
يتذكر الوالد الكثير من سوالف الأسى والعشق والمعاناة، كانوا يتعذبون فلقاءاتهم كانت للحديث عن معاناة القلوب والجيوب وكيف لهم أن يمضوا تلك السنوات «القحط» مع أبنائهم وزوجاتهم دون معاناة أو مذلة فالجيب والقلب يعانون «القحط»:
يالله عليك ربي توكلت
احفظ في قلبي قصيدة
عليك ربي توكلت أرد بمالح ونيمة
أهديها لوليدي محمد والمالح لأمه تريده
ربي عليك أتوكل
دموع عيني تخليها دايم عن خدي بعيدة
آشوف أهلي لو ساعة
وتالي يشيلوني ربعي نعشي حطب مو يريده
ويصكون على باب قبري مقفول بألفين حديدة
ربي عليك أتوكل
من هذه الأبيات يشعر القارئ مدى بساطة هؤلاء الرجال، ومدى شدتهم وتحملهم لقسوة الحياة التي كانوا يعيشونها، لكن إيمانهم الكبير بالله سبحانه وتعالى جعل منهم جبالاً يصعب هزها، وكان يحدثني الوالد أن قسوتهم في معاملة زوجاتهم يعود للمعاناة التي يعيشونها وكما يقال «زقرتهم على خشمهم»، فهم في لحظة يتبدلون من حال إلى حال وتتحول ابتسامتهم إلى طوفان من الغضب.
سالت الوالد مرة ما قصة «الأذن تعشق قبل العين أحيانا» والمنسوبة لجرير تارة وللمعري تارة أخرى يجيب «أعتقد يا وليدي أن الأذن لها مطلق الحرية فيما القلب وقبله العين عليهم مليون حارس، وكذلك فأنت عندما تلمح بنت بعينك يقولون لوليين تستأثم وكانوا في رمضان يقولون لنه إذا تبون تفطرون قولوا للملا (المطوع) أنكم شفتوا اليوم وأنتو يايين للدرس خوش يوهرة من يواهر الفريج، وعلى طول المطوع بيلتك بالخيزرانة وبيقولك ضيعت صيامك يازنديق».
أما إذا لمحت «قصدي تصوخت سوالف بين اثنين من العشاق أو غزل بين زوجين، فأنت أو حتى هوشه لن يدري بحالك أحد فالأذن لا تكشف سر صاحبها إلا متى أراد ذلك».
الرشفة الأخيرة
دائماً آباؤنا وأجدادنا وحتى أصدقاؤهم ممن أعطاهم الله طول العمر، هم المراجع التي لم يستطع الدهر أن يعكر صفو طهارتهم ونظافة ما بقلوبهم ولم تدخلهم الألوان وبقيت هاماتهم مرفوعة، وحتى عندما يتحدثون عن معاناتهم تشعر أنك أمام عنترة بن شداد بعد أن عاد من معركة قتل فيها الأخضر واليابس وعاد منتصراً، فهل يتعلم منهم ساسة اليوم حسن التلفظ والمخاطبة في «الحوار».
«يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وأنشد جرير يقول:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله أركانا».
الأبيات من قصائد سائدة ومعروفة وكتبها كثيرون في رسائلهم لمعشوقاتهم، وطالما كانت مدخلاً لدعابة بين عاشق ومعشوقته عندما يريد أن يمتحنها ويعرف عنها ما تجهله العين، فيلجأ للأذن على أنها كشفت له سراً كان خفياً على كثيرين ممن حاولوا أن يستوطنوا قلب تلك المعشوقة وكانت عصية عليهم.
حدثني والدي في جلسات كانت تجمعنا يومياً قبل وفاته في بداية السبعينات، بعد كل غدوة نتنحى جانباً في غرفتي وتجهز لنا الوالدة فناجين القهوة وأكواب الشاي والتمر، ونبدأ نحن الاثنان بنبش ذاكرة الأولين سواء في رحلات الغوص أو بعد القفال والتوجه إلى أفريقيا للتجارة أو إلى البحر، ولكن ليس بغرض الصيد بل قطع الحصة «الفروش» وكانت تستخدم في بناء البيوت ميسورة الحال، وهي من التسجيلات النادرة التي مازلت أحتفظ بها في مكتبتي.
كنت أعشق حديثه عن الغوص والغزل عند العين بين شباب ذاك الزمن وبراءتهم في أن يتحاوروا بالقصائد التي تخرج بكل عفوية ويحفظوها عن ظهر قلب رغم أميتهم، حيث تمرسوا في الإلقاء والتفنن في مخارج الحروف وإتقانهم للغة العربية الأم وحفظ كل ما تلتقطه آذانهم من أبيات شعر أو مواويل وحتى «الزهيريات» و»النهمة» التي كانت تسليتهم الوحيدة بعد ساعات الغوص وركوب خطر الحصول على المحار، ولعلهم لا ينسون ليالي الغوص ولذلك تجدهم في كل سوالفهم وما أن تفتح صفحات الذاكرة، حتى تجد الواحد منهم يتحدث وبكل فخر عن أيام وليال عاشها في البحر على ظهر السفينة، والكل كما كان يردد شادي الخليج «ها نحن عدنا ننشد الهولو على ظهر السفينة «، وهو ما استفاده هؤلاء الرجال من أغاني «النهمة» في رحلات الغوص.
يتذكر الوالد بعض هذه الأبيات ويبدأ ينشدها في صوت يمتزج بالحزن والأسى، وتستشعر منه المعاناة التي كانوا يعانونها ومدى اتكالهم على خالقهم جل وعلا في أن تمر الرحلة دون أن يفقدوا صديقاً عزيزاً عليهم، ويعود الجميع إلى أرض الوطن:
الله يا الله يا الله أطلب رضاك خالقي
من يوم رجعوا عمامي
جفت عيوني منامي
عطشان والهوى ظامي
من شافني قال لا حول
لا حول يا وليد عمبر
يا مواصل البيض بالشامي
لسمر سباني بدله
عقلي وروحي فداً له
في حين يتذكر أن هناك على سواحل الديرة تنتظرهم النساء لتنشد مرحبات بمن حضر بعد رحلة المخاطر:
توب توب يابحر
أربعة والخامس دخل
ما تخاف من الله يا بحر
يتمت وليدي يا بحر
ويانوخذاهم لا تصلب عليهم
ترى حبال الغوص قطع أيديهم
كنت أعشق الجلوس مع الوالد واستماعه وهو يلقي القصيدة أو الأبيات بطريقة المواويل، وكانت تروي حكايا كثيرة عن فنون الغزل والمعاناة عند العاشق من طرف واحد لبنت الحي الفتنة التي «خديت» رجالاتها ولم تتبادل مع أي منهم حتى ابتسامه تشفي غليله.
يتذكر الوالد الكثير من سوالف الأسى والعشق والمعاناة، كانوا يتعذبون فلقاءاتهم كانت للحديث عن معاناة القلوب والجيوب وكيف لهم أن يمضوا تلك السنوات «القحط» مع أبنائهم وزوجاتهم دون معاناة أو مذلة فالجيب والقلب يعانون «القحط»:
يالله عليك ربي توكلت
احفظ في قلبي قصيدة
عليك ربي توكلت أرد بمالح ونيمة
أهديها لوليدي محمد والمالح لأمه تريده
ربي عليك أتوكل
دموع عيني تخليها دايم عن خدي بعيدة
آشوف أهلي لو ساعة
وتالي يشيلوني ربعي نعشي حطب مو يريده
ويصكون على باب قبري مقفول بألفين حديدة
ربي عليك أتوكل
من هذه الأبيات يشعر القارئ مدى بساطة هؤلاء الرجال، ومدى شدتهم وتحملهم لقسوة الحياة التي كانوا يعيشونها، لكن إيمانهم الكبير بالله سبحانه وتعالى جعل منهم جبالاً يصعب هزها، وكان يحدثني الوالد أن قسوتهم في معاملة زوجاتهم يعود للمعاناة التي يعيشونها وكما يقال «زقرتهم على خشمهم»، فهم في لحظة يتبدلون من حال إلى حال وتتحول ابتسامتهم إلى طوفان من الغضب.
سالت الوالد مرة ما قصة «الأذن تعشق قبل العين أحيانا» والمنسوبة لجرير تارة وللمعري تارة أخرى يجيب «أعتقد يا وليدي أن الأذن لها مطلق الحرية فيما القلب وقبله العين عليهم مليون حارس، وكذلك فأنت عندما تلمح بنت بعينك يقولون لوليين تستأثم وكانوا في رمضان يقولون لنه إذا تبون تفطرون قولوا للملا (المطوع) أنكم شفتوا اليوم وأنتو يايين للدرس خوش يوهرة من يواهر الفريج، وعلى طول المطوع بيلتك بالخيزرانة وبيقولك ضيعت صيامك يازنديق».
أما إذا لمحت «قصدي تصوخت سوالف بين اثنين من العشاق أو غزل بين زوجين، فأنت أو حتى هوشه لن يدري بحالك أحد فالأذن لا تكشف سر صاحبها إلا متى أراد ذلك».
الرشفة الأخيرة
دائماً آباؤنا وأجدادنا وحتى أصدقاؤهم ممن أعطاهم الله طول العمر، هم المراجع التي لم يستطع الدهر أن يعكر صفو طهارتهم ونظافة ما بقلوبهم ولم تدخلهم الألوان وبقيت هاماتهم مرفوعة، وحتى عندما يتحدثون عن معاناتهم تشعر أنك أمام عنترة بن شداد بعد أن عاد من معركة قتل فيها الأخضر واليابس وعاد منتصراً، فهل يتعلم منهم ساسة اليوم حسن التلفظ والمخاطبة في «الحوار».