أمام الفوضى العارمة التي يغرق فيها العرب، وفي خضم اختلاط الأوراق وضياع البوصلة يفكر المواطن العربي بمنطق أبسط وأعمق من تفكير كثير من سياسيي العرب وعلماء الدين الذين تولوا إدارة القضية السورية، كل حسب هواه ومصالحه.فلو كنت سورية لشعرت بحزن شديد وخيبة أمل عظيمة أمام السلوك العربي الأخير تجاه سوريا. فسياسيو العرب انهمكوا في تطوير القتال وتغيير اتجاه موازينه، إنهم يتحدثون عن حرب ولا يتحدثون عن حل. وعلماء الأمة انشغلوا بخلافاتهم الطائفية ومبرراتهم الدينية والمقدسة في تسعير نيران الحرب المذهبية المشتعلة في سوريا. لم يتحدث أحد في مؤتمري «إعلان الجهاد في سوريا» و«نصرة سوريا» اللّذين عقدا في مصر عن نجاح الثورة السورية وتحقيق أهدافها في التحول من النظام الشمولي إلى نظام ديمقراطي يقوم على دولة مدنية أساسها المواطنة الكاملة، لم يلتفت أحد إلى قضية وحدة الأراضي السورية والوقوف ضد أي عملية تقسيم، لم يطالب السياسيون العرب ومشايخهم بوقف الاقتتال السوري وحقن الدم الذي يضيع بين المتقاتلين وتتاجر به جميع الأطراف. في هرولة العرب لتوسيع الحرب في سوريا، وأمامهم أمريكا والغرب، يتجاهلون أن السوريين هم من يدفع الدم وأن أي انتصار يحققه أي طرف إنما هو ارتفاع فوق جثامينهم وسفك لوحدة وطنهم وسلامة تعايشهم. ولو كنت عراقية لذهلت مصدومة من سلوك العرب تجاه سوريا لسببين؛ الأول أن التوجه نحو تصعيد الحرب في سوريا هو التوجه ذاته الذي رسم لإسقاط (الدولة) العراقية بحجة إسقاط النظام العراقي واختزال العراق كله في شخص صدام حسين، ولكن بسيناريو أكثر بؤساً ورداءة يمتزج فيه بعض مشاهد سيناريو الجهاد في أفغانستان بأسلوب فج من القص واللزق، لا يدل إلا على استهتار كاتب السيناريو بعقول المتلقين من العرب. لو كنت عراقية لضحكت من إعادة استخدام أكذوبة الأسلحة الكيماوية في سوريا كما استخدمت في العراق، ولتقززت من تحركات الائتلاف السوري وهو يعيد تمثيليات معارضة الفنادق العراقية الذين انتهى بهم الأمر أن يدخلوا العراق على دبابات أمريكية مرة ببرنيطة أمريكانية، كما فعل أحمد الجلبي، ومرة بعمامة شيعية، كما فعل محمد باقر وعبدالعزيز الحكيم، لكن ائتلاف السوريين أقل مهارة وأكثر تشتتاً وأسرع تفككاً ولا يظهر إلا لالتقاط الصور وإثبات الحضور فقط.الصدمة الثانية مردها أن العراقيين أشد من عانى من الاستهداف الطائفي، فسنة العراق واجهوا حرب إبادة شعواء من قبل الأمريكان وميليشات الأحزاب الشيعية ومقاتلي فيلق القدس الإيراني الذين احتلوا جنوب العراق وطهروا مدينة البصرة من السنة وقتلوهم على الهوية وعلى الاسم، ومع هذا لم يتعاطف أحد مع صرخات الشيخ حارث الضاري وهو يعلنها صراحة أن ثمة مخططاً لإبادة سنة العراق وتهجيرهم. وها هي اليوم تقوم ثورة سنية خالصة في العراق بعد أن استبيح شرف حرائر السنة مراراً وتكراراً على مسمع ومرأى من العالم وبتدبير من رئيس الوزراء المالكي، ولم ينهض أحد لدعم ثورة السنة في الأنبار، ولم تصدر الفتاوى بالجهاد نصرة لهم ونفيراً لحمايتهم والذود عنهم، ولم تجمع لهم الأموال ولم تقم لهم الصلوات والدعوات، أليس هذا ازدواجاً طائفياً عجيباً له دلالاته الخطيرة على حقيقة ما يحدث؟!ولأني بحرينية؛ فإني أشعر بفزع شديد من الاتجاه الطائفي الخطير الذي انزلقت إليه الثورة السورية، فأنا أعيش في بلد تتقارب فيه نسب السكان من السنة والشيعة، وفيه أيضاً أقلية يهودية ومسيحية. أحد شباب البحرين السنة قُتل في صفوف الجيش الحر المعارض للنظام السوري في معارك القصير، ومجموعة من شباب البحرين الشيعة يقاتلون في صفوف حزب الله دفاعاً عن نظام بشار الأسد، لقد تقاتل البحرينيون طائفياً خارج وطنهم!!.والبحرين بحكم التركيبية السكانية والموقع الجغرافي أسرع تأثراً بالموجات الطائفية من غيرها، فبعد الثورة الإيرانية وإعلان الخميني عن تصدير الثورة اشتغلت اضطرابات كثيرة في البحرين على أساس طائفي، كان آخرها أحداث 14 فبراير عام 2011، التي وإن حملت شعارات إصلاحية ومطلبية إلا أن منظمي الحراك ورموزه هم جزء من الإفراز الطائفي الذي اجتاح المنطقة بعد سقوط العراق في يد إيران، والفئة التي جيشوها في الاضطرابات هي من أنصارهم من الشيعة فقط؛ لذلك فإن دولاً متعددة الطوائف مثل البحرين ولبنان هي الأشد هلعاً من جني حصاد الطائفية الذي يعصف بالمنطقة والأشد قلقاً من تورط مواطنيها من سياسيين ورجال دين في تصعيد الخطاب الطائفي.المواطن العربي البسيط لا يتمنى أكثر من كبح جماح الانفلات نحو الحرب الشاملة التي يتبارى السياسيون وشيوخ الدين في قرع طبولها، ولا يرغب في أكثر من حل القضية السورية على أسس توافقية تحقن الدم السوري وتحفظ وحدة سوريا وتضمن إعادة بنائها من جديد، ولا يطالب إلا بوقف التصعيد الطائفي الذي يضرب الهوية العامة للأمة ويفتتها إلى هويات فرعية ترفض التعايش، أما شعارات النصرة والمقاومة والخطابات الإنشائية والتحريضية التي أغرقنا بها من يحركون الأمور فليست إلا للاستهلاك السياسي والمضي في مشروع خطير لا تعرف عواقبه ولا يتوافق مع مصلحة الشعوب العربية.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90