في مراجعة عاجلة للعلاقات التركية الإيرانية التي أوردناها في مقالات سابقة عديدة، علنا نلاحظ فتح ملف الأكراد كرابط رئيس بين البلدين في عمليات الصراع والاتفاق بينهما. كذلك هي إيران تمارس السياسة نفسها مع دول الجوار الأخرى، ومنها باكستان وأفغانستان. ولكي نتعرف على طبيعة العلاقات الإيرانية الباكستانية عن كثب كان لزاماً فتح ملف «البلوش» بصفتهم يختصون بإقليم بلوشستان الممتد بين الدول الثلاث؛ إيران، باكستان، أفغانستان.
وقبل الشروع في تناول التفاصيل تجدر الإشارة إلى أن إقليم بلوشستان مغتصب من أراضي سلطنة عمان؛ حيث احتل شاه إيران الجانب الغربي منه والمسمى بـ»مكران»، فيما احتلت باكستان -عقب انقسامها عن الهند- جانبه الشرقي المعروف حتى يومنا هذا بإقليم «بلوشستان». وذلك نظراً للموقع الجغرافي المهم لأراضي البلوش الغنية؛ حيث تطل على بحر الخليج العربي وخليج عمان، إلى جانب مضيق هرمز الذي لطالما كان مطمعاً للقوى الاستعمارية وخضوعه للاحتلال البرتغالي والأوروبي، ثم ما لبث أن وقع عليه رهان استراتيجي من قبل كبريات الدول، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.
من جانب آخر؛ ورغم أن كلمة «باكستان» تعني الأرض النقية والطاهرة، إلا أننا مازلنا نبحث عن موضع ذلك الطهر، فحتى إسلامها، وهو أقدس ما يمكن الحديث عنه، استغل في التدخل بالشؤون الداخلية لبقية الدول لأغراض سياسية، تلك السياسة التي تشكل نقطة الالتقاء البارزة بين السياستين الخارجيتين الإيرانية والباكستانية.
ولأن الحديث يطول نسبياً حول العلاقات الإيرانية الباكستانية من حيث لا يتسع له صدر المقال، وربما القارئ كذلك، فلعلنا نسلط الضوء إيجازاً على أهم متغيراتها؛ حيث انخرطت كل من إيران وباكستان في السياسات الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة ما أسفر عن دخول كلتيهما في منظمات اقتصادية وعسكرية منضوية تحت مظلة أمريكية، غير أن انسحاب إيران من تلك المنظمات أعقبه انسحاب باكستان، ودخول الأخيرة في «حركة عدم الانحياز».
ولعل من أهم لمحات التعاون الباكستاني الإيراني، تعاونهما مع تركيا عبر تشكيل «حلف إسطنبول»، كان ذلك في 1976. وقد أسهم عدد من المتغيرات السياسية الإقليمية ونتائجها بعد ذلك في ميل إيران نحو السياسة الباكستانية، ما أثمر عنه مزيد من التعاون والدفاع المشترك.
وقد برز الدفاع المشترك بين إيران وباكستان في مرحلتين رئيسيتين؛ الأولى انشقاق بلوش باكستان منادين بـ»بلوشستان كبرى»، خصوصاً وأن للبلوش عراقة في حضارة يعتقد أنها سبقت حضارات بلاد الرافدين ومصر. وقد كان ذلك الانشقاق بمثابة نذير لإيران؛ نظراً لتشكيل البلوش جزءاً من التنوع القومي الإيراني. رافق ذلك دعم الهند والعراق للحركة الانشقاقية البلوشية؛ مرجع ذلك العداء المعلن بين الهند وباكستان من جهة والعراق وإيران من جهة أخرى. وهو ما دعا إيران لدعم باكستان بقوة والتصدي لذلك الانشقاق في 1972. لكن القضية البلوشية الباكستانية أثيرت مجدداً بمجيء الاجتياح السوفيتي لأفغانستان، غير أن إيران كانت لها بالمرصاد ووقفت جنباً إلى جنب مع باكستان وبمعية مناهضي الاجتياح السوفيتي من الأفغان.
وقد شمل التعاون الإيراني مع باكستان أن دعمتها اقتصادياً حتى صدّرت إليها نفطها بأسعار مخفضة، ولا ضير في ذلك؛ فلطالما توافقنا على أن إيران لعوب منحت مفاتنها لكل من راودها عن نفسها -بلا استحياء- بغض النظر عن الثمن، وها هي ذي تمنح ما حباها الله به بثمنٍ بخس؛ دراهم معدودة. عموماً.. لا شأن لنا بذلك.!! إنما ما يعنينا من هذا أنه منشأ دعوة رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك لمنطقة تجارة حرة تضم باكستان وإيران وتركيا، كان ذلك في 1976، وبعد سنة من دعوته لإنشاء هيئة للصناعات العسكرية المشتركة مع إيران. ولعل من اللافت كذلك أن العلاقات الإيرانية السياسية والثقافية مع باكستان شهدت حراكاً استثنائياً لم يحدث له مثيل في التاريخ الإيراني!
وعودة على الدعم السياسي والعسكري يجدر الإشارة إلى كون علاقة تبادلية تجمع بين إيران وباكستان، وقد برز ذلك التبادل أثناء حرب الخليج الأولى «إيران والعراق»، إذ وقفت باكستان مع الصف الإيراني، وهي المرحلة الثانية من الدفاع المشترك بينهما. مرجع ذلك في هذه المرحلة حماية المصالح الباكستانية من النفط الإيراني، فضلاً عن الانتقام من العراق لدعمه الانشقاق البلوشي الباكستاني من جهة، وتطور علاقاته مع الهند من جهة أخرى. هذا ناهيك عن عمق العلاقات التاريخية وحسن الجوار بين البلدين؛ إيران وباكستان.
غير أن باكستان ظهرت في تلك الأثناء ببشاعتها المنافية للطهر الذي أسمت نفسها به؛ إذ مارست دورها بوجه مزدوج؛ فالأول داعم للموقف الإيراني في الحرب، والآخر يعد مستضيفاً ورئيساً للوفود الإسلامية بمنظمة المؤتمر الإسلامي والساعية لإيقاف الحرب.
ويمكن القول أن العلاقات الإيرانية الباكستانية وقفت صامدة بوجه جميع المتغيرات السياسية التي شهدتها الجمهوريتان، فضلاً عن المتغيرات الدولية إزاء المنطقة، وذلك حتى بروز ووضوح الخطة الأمريكية لمحاصرة إيران.
إلى هنا.. ولعلنا نقول كفى؛ تاركين عدداً من الأسئلة المفتوحة حول تلك الخطة الأمريكية، وبروز أفغانستان في ذلك المعترك كواحدة من القضايا الشائكة. وتبقى العلاقة الإيرانية الباكستانية معلقة إلى حين.
ومض النبضات..
لو عدنا لخارطة آسيا السياسية وتمعنا في موقعي كردستان وبلوشستان، كمركزي هيمنة إيرانية على الإقليمين، سيتضح جلياً كيف أن إيران -حتى في جغرافيتها- غراباً نوحياً أبقع «أي خبيث»، متوشحاً بثوب الحداد «قلباً وقالباً»، باسطاً جناحيه على المنطقة، متجهاً نحو كل ما يلمع في أصقاع العالم، لاسيما في الدول المجاورة، وإنما صوته نذير شؤم على من سمعه.
لنا موعد آخر متجدد مع الغراب.. إلى لقاء.
{{ article.visit_count }}
وقبل الشروع في تناول التفاصيل تجدر الإشارة إلى أن إقليم بلوشستان مغتصب من أراضي سلطنة عمان؛ حيث احتل شاه إيران الجانب الغربي منه والمسمى بـ»مكران»، فيما احتلت باكستان -عقب انقسامها عن الهند- جانبه الشرقي المعروف حتى يومنا هذا بإقليم «بلوشستان». وذلك نظراً للموقع الجغرافي المهم لأراضي البلوش الغنية؛ حيث تطل على بحر الخليج العربي وخليج عمان، إلى جانب مضيق هرمز الذي لطالما كان مطمعاً للقوى الاستعمارية وخضوعه للاحتلال البرتغالي والأوروبي، ثم ما لبث أن وقع عليه رهان استراتيجي من قبل كبريات الدول، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.
من جانب آخر؛ ورغم أن كلمة «باكستان» تعني الأرض النقية والطاهرة، إلا أننا مازلنا نبحث عن موضع ذلك الطهر، فحتى إسلامها، وهو أقدس ما يمكن الحديث عنه، استغل في التدخل بالشؤون الداخلية لبقية الدول لأغراض سياسية، تلك السياسة التي تشكل نقطة الالتقاء البارزة بين السياستين الخارجيتين الإيرانية والباكستانية.
ولأن الحديث يطول نسبياً حول العلاقات الإيرانية الباكستانية من حيث لا يتسع له صدر المقال، وربما القارئ كذلك، فلعلنا نسلط الضوء إيجازاً على أهم متغيراتها؛ حيث انخرطت كل من إيران وباكستان في السياسات الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة ما أسفر عن دخول كلتيهما في منظمات اقتصادية وعسكرية منضوية تحت مظلة أمريكية، غير أن انسحاب إيران من تلك المنظمات أعقبه انسحاب باكستان، ودخول الأخيرة في «حركة عدم الانحياز».
ولعل من أهم لمحات التعاون الباكستاني الإيراني، تعاونهما مع تركيا عبر تشكيل «حلف إسطنبول»، كان ذلك في 1976. وقد أسهم عدد من المتغيرات السياسية الإقليمية ونتائجها بعد ذلك في ميل إيران نحو السياسة الباكستانية، ما أثمر عنه مزيد من التعاون والدفاع المشترك.
وقد برز الدفاع المشترك بين إيران وباكستان في مرحلتين رئيسيتين؛ الأولى انشقاق بلوش باكستان منادين بـ»بلوشستان كبرى»، خصوصاً وأن للبلوش عراقة في حضارة يعتقد أنها سبقت حضارات بلاد الرافدين ومصر. وقد كان ذلك الانشقاق بمثابة نذير لإيران؛ نظراً لتشكيل البلوش جزءاً من التنوع القومي الإيراني. رافق ذلك دعم الهند والعراق للحركة الانشقاقية البلوشية؛ مرجع ذلك العداء المعلن بين الهند وباكستان من جهة والعراق وإيران من جهة أخرى. وهو ما دعا إيران لدعم باكستان بقوة والتصدي لذلك الانشقاق في 1972. لكن القضية البلوشية الباكستانية أثيرت مجدداً بمجيء الاجتياح السوفيتي لأفغانستان، غير أن إيران كانت لها بالمرصاد ووقفت جنباً إلى جنب مع باكستان وبمعية مناهضي الاجتياح السوفيتي من الأفغان.
وقد شمل التعاون الإيراني مع باكستان أن دعمتها اقتصادياً حتى صدّرت إليها نفطها بأسعار مخفضة، ولا ضير في ذلك؛ فلطالما توافقنا على أن إيران لعوب منحت مفاتنها لكل من راودها عن نفسها -بلا استحياء- بغض النظر عن الثمن، وها هي ذي تمنح ما حباها الله به بثمنٍ بخس؛ دراهم معدودة. عموماً.. لا شأن لنا بذلك.!! إنما ما يعنينا من هذا أنه منشأ دعوة رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك لمنطقة تجارة حرة تضم باكستان وإيران وتركيا، كان ذلك في 1976، وبعد سنة من دعوته لإنشاء هيئة للصناعات العسكرية المشتركة مع إيران. ولعل من اللافت كذلك أن العلاقات الإيرانية السياسية والثقافية مع باكستان شهدت حراكاً استثنائياً لم يحدث له مثيل في التاريخ الإيراني!
وعودة على الدعم السياسي والعسكري يجدر الإشارة إلى كون علاقة تبادلية تجمع بين إيران وباكستان، وقد برز ذلك التبادل أثناء حرب الخليج الأولى «إيران والعراق»، إذ وقفت باكستان مع الصف الإيراني، وهي المرحلة الثانية من الدفاع المشترك بينهما. مرجع ذلك في هذه المرحلة حماية المصالح الباكستانية من النفط الإيراني، فضلاً عن الانتقام من العراق لدعمه الانشقاق البلوشي الباكستاني من جهة، وتطور علاقاته مع الهند من جهة أخرى. هذا ناهيك عن عمق العلاقات التاريخية وحسن الجوار بين البلدين؛ إيران وباكستان.
غير أن باكستان ظهرت في تلك الأثناء ببشاعتها المنافية للطهر الذي أسمت نفسها به؛ إذ مارست دورها بوجه مزدوج؛ فالأول داعم للموقف الإيراني في الحرب، والآخر يعد مستضيفاً ورئيساً للوفود الإسلامية بمنظمة المؤتمر الإسلامي والساعية لإيقاف الحرب.
ويمكن القول أن العلاقات الإيرانية الباكستانية وقفت صامدة بوجه جميع المتغيرات السياسية التي شهدتها الجمهوريتان، فضلاً عن المتغيرات الدولية إزاء المنطقة، وذلك حتى بروز ووضوح الخطة الأمريكية لمحاصرة إيران.
إلى هنا.. ولعلنا نقول كفى؛ تاركين عدداً من الأسئلة المفتوحة حول تلك الخطة الأمريكية، وبروز أفغانستان في ذلك المعترك كواحدة من القضايا الشائكة. وتبقى العلاقة الإيرانية الباكستانية معلقة إلى حين.
ومض النبضات..
لو عدنا لخارطة آسيا السياسية وتمعنا في موقعي كردستان وبلوشستان، كمركزي هيمنة إيرانية على الإقليمين، سيتضح جلياً كيف أن إيران -حتى في جغرافيتها- غراباً نوحياً أبقع «أي خبيث»، متوشحاً بثوب الحداد «قلباً وقالباً»، باسطاً جناحيه على المنطقة، متجهاً نحو كل ما يلمع في أصقاع العالم، لاسيما في الدول المجاورة، وإنما صوته نذير شؤم على من سمعه.
لنا موعد آخر متجدد مع الغراب.. إلى لقاء.