تجربة عملية جميلة يرويها أحد الماضين عن هذه الدنيا في كتاب له، ملخصها أنه خلال أمسية ثقافية نظمت بغرض تنمية مواهب الطلبة في مدرسة بإحدى البلاد العربية، اتفق المدرسون على تعريض الطلاب لتجربة مثيرة بغية معرفة «كيف يقع التغيير والتبديل في الحديث، إذا طال سيره بين الرواة من فم إلى أذن» حيث تم إجلاس 60 من الطلبة في بهو المدرسة متجاورين في خط واحد وقام مدرس الجغرافيا بهمس كلام في أذن الطالب الأول وطلب منه نقله إلى الجالس بجنبه لينقله بدوره إلى الذي يليه وهكذا، حتى ينتهي إلى الطالب الأخير، وعندما انتهت العملية تم سؤال الطالب الأخير عن المعلومة التي وصلته فقال «بكرة ما في درس جغرافيا» . أما الجملة الأصلية التي كان قد همس بها مدرس الجغرافيا في أذن الطالب الأول فكانت «بكرة درسنا في الجغرافيا كذا وكذا»، ما يؤكد أن النقل أدى إلى قلب الجملة الإيجابية إلى جملة سلبية وأن «تغييراً وتبديلاً يقع على الرواية إذا طال سيرها بين الأفواه والآذان وتداولها رواة كثيرون!».اليوم وبفضل التكنولوجيا التي تتطور في كل ساعة، يتناقل الناس الأخبار عبر مختلف الوسائل لعل أشهرها «تويتر» و»فيسبوك» والرسائل النصية من دون الاستغناء طبعاً عن الفم والأذن للإرسال والاستقبال. نظرة سريعة في بعض الأخبار يتبين أنها بدأت إيجابية وانتهت سلبية، تماماً كما حدث مع مدرس الجغرافيا، أو أنها بدأت سلبية وانتهت غارقة في السلبية، ومتضخمة بشكل لا يتبين معها حتى ملامح الخبر ساعة ولادته!في «تويتر» على سبيل المثال، ينشر أحدهم خبراً عن تعرض مواطن لأذى ما أثناء مواجهات حدثت بين متظاهرين وقوات الأمن، يقول الخبر إن المواطن أصيب بطلقة مسيل للدموع في يده، ثم بعد قليل يحرّف الخبر بسبب النقل السريع أو لأسباب أخرى سياسية فيصير أن الإصابة كانت في العين وليست اليد، ولكنها كانت إصابة خفيفة وأن الله سلّم، ليتم تداولها بعد قليل برواية أخرى ملخصها أن الإصابة في العين فعلاً لكنها لم تكن خفيفة كما أشيع لأنها كانت بالرصاص الحي، ثم لتتطور الرواية فتصل في نهاية اليوم إلى أن المصاب فقد يديه ورجليه وعينيه قبل أن يتبين– ربما- أنه لم تكن هناك إصابة من الأساس!قصص كثيرة يتم تداولها تصل في مرحلتها النهائية إلى قصص لا علاقة لها بالأصلية، الأول ينقلها كما هي، الثاني ينقلها ناقصة كلمتين، الثالث ينقلها بعد أن يضيف إليها كلمتين، لتصل في النهاية قصة سلبية لا علاقة لها بالحدث الأصلي.هذا يحدث عندنا اليوم في البحرين، بعضه بشكل غير مقصود وبعضه الآخر مقصود، فتتحول قصة طفل وقع على الأرض لأنه كان يمزح مع صديقه إلى قصة أصيب فيها الطفل، بسبب ملاحقة رجل أمن له، ومحاولة اعتقاله، بينما يتحول الجرح البسيط الذي أصيب به في ركبته عندما وقع إلى جرح عميق في الركبة وكسر في الجمجمة وجروح في الوجه واليدين!النقل السلبي والمبالغ فيه يحدث أيضاً مع كل تطور تشهده الساحة البحرينية فتتحول التصريحات الإيجابية إلى تصريحات سلبية وتتحول موافقة جمعية سياسية على المشاركة في خطوة ما تتحمس لها إلى رفضها للمشاركة وتتحول النعم إلى لا واللا إلى نعم .إن أحد أسباب تأخرنا عن الوصول إلى حل يرضي الجميع هو هذا الكلام الكثير الذي نتناقله ليل نهار، والذي يصل إلى الأذن الأخيرة بشكل مغاير لما خرج به من الفم الأول. لسنا في حاجة إلى عمل تجربة مماثلة لتجربة مدرس الجغرافيا، لكن لو فعلنا فالأكيد أننا سنصل إلى النتيجة نفسها!