حينما كنا صغاراً، كنا ننظر بإعجاب لذلك الرجل ذي الزي الأبيض الذي يوقف السيارات بيده لنعبر الطريق إلى المدرسة، كنا نتحدث عن تلك القوة التي يمتلكها فتقف بحركة من يده كل السيارات!!
أذكر أيضاً أنه في المرحلتين (الابتدائية والإعدادية) في الثمانينات وبداية التسعينات؛ كان لرجال الشرطة مكانة وهيبة كبيرة عندنا، لذلك كان صديق طفولتي عيسى يتحدث دائماً ويفاخر ببطولات أبيه الشرطي، واعتقدته يضيف لها شيئاً من البهارات والكذب البريء الذي يتناسب مع مخيلة طفل يريد التباهي بأبيه؛ إذ لا يمكن أن تكون لوالده كل يوم بطولة!! وكل يوم صايد (جم) حرامي بطريقة سينمائية كارتونية مشوقة!! كان أكثرها إثارة مطاردته ركضاً (للفارس الملثم)؛ تلك الشخصية الوهمية التي ذاع صيتها في ذلك الوقت وأخافت الكبار قبل الصغار، إذ كان يروي أنه يقفز ويجري فوق البيوت والأسوار بسرعة خرافية ويشاهد في 5 مناطق في ليلة واحدة، ولم يكن أحد يجاريه في سرعته حتى السيارات!!
لكن صديقي عيسى جاءنا ذات يوم بقصة غاية في الإثارة؛ فمن يستطيع أن يجاري الفارس الملثم غير والده (حجي خلف)، الذي كان شرطياً في منتصف العمر حينها، إذ طارد (الفارس الملثم) جرياً على الأقدام دون توقف من مدينة عيسى، حيث نسكن إلى المحرق!! وطبعاً اختار عيسى المحرق لأنها كانت تمثل لنا أبعد مسافة تصل إليها مخيلتنا، فلا يوجد بعد المحرق شيء!! ما زلت ألتقي عيسى منذ المرحلة الابتدائية إلى اليوم، وأذكره أحياناً بتلك القصص مداعباً!!
هكذا كان رجل الشرطة عندنا يستحضر البطولات ويستحق الاحترام، كذلك كان للمعلم هيبة؛ فهو في نظرنا حكيم وقور يعرف كل شيء، مثل جارنا عمي جاسم بوشعر، وهو والد صديقي هيثم وفهد، والأخير كاتب وزميل لنا في الوطن، وكنت أعتبر بيتهم بيتي الثاني الذي أكلت فيه ولعبت وتعلمت ووبخت وحتى غفوت مطمئناً على الأريكة وأنا أتابع التلفزيون.
عمي جاسم بالنسبة لكل أبناء (فريجنه) هو المدرس الوقور الصارم الحنون، هو رمز بكل ما تعنيه هيبة وعظمة المعلم، فوجوده يجعلنا نحترمه ونعدل من سلوكنا، حتى حين كان يمر بسيارته (ذات اللون البني المميز)، التي لم يغيرها منذ أن بدأنا نميز الأشياء وأظنه يحتفظ بها إلى الآن، هكذا كنا صغاراً ننظر بتبجيل للمعلم ولرجل الأمن وشرطي المرور، فما الذي أصاب شريحة من أطفال ومراهقي اليوم الذين فقدوا الاحترام لقيمة المدرسة، بل وراحوا يخربون مدارسهم ويعتدون عليها؟ من غرر بهم وأدخل في عقولهم أن تلك بطولات؟ وأن المدرسة والمعلم ورجل الأمن أهداف لعمليات التخريب والمواجهات!!
إذ تعرضت العديد من المدارس لمختلف أنواع التخريب الذي تنوع بين إشعال الحرائق والإطارات عند بوابات وأسوار المدارس، وتكسير خزانات المياه، وخلع الأبواب، بل وصل الأمر الى استخدام (المولوتوف)، وتقدر وزارة التربية والتعليم الخسائر التي منيت بها منذ بداية العام الماضي نتيجة الاعتداء على أكثر من 150 مدرسة بما يقارب المليون و600 ألف دينار بحريني!!
لقد نادينا مراراً بضرورة عدم زج الأطفال في أعمال التخريب، وبالأخص تلاميذ المدارس، ففي ذلك انتهاك لطفولتهم، والأخطر أنه ينشئ جيلاً يتربى على الكراهية وعدم احترام القوانين، كما إنه يزرع الطائفية في نفوس الأطفال حينما يرون مدارسهم تحرق ويشعرون بالتهديد من قبل تلاميذ آخرين ينتمون (لطائفة معينة)، وبالتالي سيشعرون بالعداء والاستهداف من كل الطائفة، لن يفهم الصغار أن هؤلاء مغرر بهم وهم نتاج استغلال وتعصب طائفي لجماعات راديكالية، هي وبال على طائفتها وعلى الوطن بأكمله، قد نفهم ذلك نحن الكبار الذين عايشنا في طفولتنا زمن جميل بعيد عن الشحن الطائفي، لكن أطفال اليوم كيف ستكون نفسياتهم حين يكبرون وقد عاشوا ما عاشوه منذ فتنة 2011!!
الغريب أنه حينما ننادي بإبعاد الأطفال عن الفتنة يرد علينا مغيب متعصب: (أنتم لا تشعرون بمعاناة الفقراء هؤلاء دفعهم العوز والحاجة والظلم!!)، غريب حقيقة هذا الكلام فمتى كان الشعور بالحاجة دافعاً لحرق المدارس؟! وهل ترك الأطفال للمدارس والتوجه للتخريب وخرق القوانين وتعريض حياتهم وحياة الناس للخطر سيقودهم الى حياة أفضل وتحسين فرصهم مستقبلاً وتحسين وضعهم المعيشي؟! والأكيد أن الأطفال المخربين ليسوا بالضرورة من أسر فقيرة!!
ثم من قال إننا كنا من أسر ميسورة؟! لقد كنا من أسر مستواها الاقتصادي بسيط جداً؟! لكن أهلنا أحسنوا تربيتنا ومدونا بقيم عظيمة على رأسها احترام المدرس والمدرسة ورجل الأمن وحب كل ما يرمز للوطن والبعد عن الطائفية والتفرقة بين الناس، لذلك كان أبي (رحمه الله) يحلم أن أكون مدرساً حتى يفتخر بي ويناديه الناس (أبو الأستاذ)، مات الوالد قبل أن يراني مدرساً أو صحفياً، لكن ما غرسه فينا كان عظيماً مثله، ومازال حياً بداخلنا نسترشد به؛ فصرنا ما نحن عليه اليوم.
- شريط إخباري..
إلى الشيخ عيسى قاسم ومن وراءه الوفاق.. نعلم أنه باستطاعتكم وقف عمليات التخريب في الشوارع، وبالأخص في المدارس، فهل أنتم فاعلون؟ هذا سؤال وموقف أخلاقي.
{{ article.visit_count }}
أذكر أيضاً أنه في المرحلتين (الابتدائية والإعدادية) في الثمانينات وبداية التسعينات؛ كان لرجال الشرطة مكانة وهيبة كبيرة عندنا، لذلك كان صديق طفولتي عيسى يتحدث دائماً ويفاخر ببطولات أبيه الشرطي، واعتقدته يضيف لها شيئاً من البهارات والكذب البريء الذي يتناسب مع مخيلة طفل يريد التباهي بأبيه؛ إذ لا يمكن أن تكون لوالده كل يوم بطولة!! وكل يوم صايد (جم) حرامي بطريقة سينمائية كارتونية مشوقة!! كان أكثرها إثارة مطاردته ركضاً (للفارس الملثم)؛ تلك الشخصية الوهمية التي ذاع صيتها في ذلك الوقت وأخافت الكبار قبل الصغار، إذ كان يروي أنه يقفز ويجري فوق البيوت والأسوار بسرعة خرافية ويشاهد في 5 مناطق في ليلة واحدة، ولم يكن أحد يجاريه في سرعته حتى السيارات!!
لكن صديقي عيسى جاءنا ذات يوم بقصة غاية في الإثارة؛ فمن يستطيع أن يجاري الفارس الملثم غير والده (حجي خلف)، الذي كان شرطياً في منتصف العمر حينها، إذ طارد (الفارس الملثم) جرياً على الأقدام دون توقف من مدينة عيسى، حيث نسكن إلى المحرق!! وطبعاً اختار عيسى المحرق لأنها كانت تمثل لنا أبعد مسافة تصل إليها مخيلتنا، فلا يوجد بعد المحرق شيء!! ما زلت ألتقي عيسى منذ المرحلة الابتدائية إلى اليوم، وأذكره أحياناً بتلك القصص مداعباً!!
هكذا كان رجل الشرطة عندنا يستحضر البطولات ويستحق الاحترام، كذلك كان للمعلم هيبة؛ فهو في نظرنا حكيم وقور يعرف كل شيء، مثل جارنا عمي جاسم بوشعر، وهو والد صديقي هيثم وفهد، والأخير كاتب وزميل لنا في الوطن، وكنت أعتبر بيتهم بيتي الثاني الذي أكلت فيه ولعبت وتعلمت ووبخت وحتى غفوت مطمئناً على الأريكة وأنا أتابع التلفزيون.
عمي جاسم بالنسبة لكل أبناء (فريجنه) هو المدرس الوقور الصارم الحنون، هو رمز بكل ما تعنيه هيبة وعظمة المعلم، فوجوده يجعلنا نحترمه ونعدل من سلوكنا، حتى حين كان يمر بسيارته (ذات اللون البني المميز)، التي لم يغيرها منذ أن بدأنا نميز الأشياء وأظنه يحتفظ بها إلى الآن، هكذا كنا صغاراً ننظر بتبجيل للمعلم ولرجل الأمن وشرطي المرور، فما الذي أصاب شريحة من أطفال ومراهقي اليوم الذين فقدوا الاحترام لقيمة المدرسة، بل وراحوا يخربون مدارسهم ويعتدون عليها؟ من غرر بهم وأدخل في عقولهم أن تلك بطولات؟ وأن المدرسة والمعلم ورجل الأمن أهداف لعمليات التخريب والمواجهات!!
إذ تعرضت العديد من المدارس لمختلف أنواع التخريب الذي تنوع بين إشعال الحرائق والإطارات عند بوابات وأسوار المدارس، وتكسير خزانات المياه، وخلع الأبواب، بل وصل الأمر الى استخدام (المولوتوف)، وتقدر وزارة التربية والتعليم الخسائر التي منيت بها منذ بداية العام الماضي نتيجة الاعتداء على أكثر من 150 مدرسة بما يقارب المليون و600 ألف دينار بحريني!!
لقد نادينا مراراً بضرورة عدم زج الأطفال في أعمال التخريب، وبالأخص تلاميذ المدارس، ففي ذلك انتهاك لطفولتهم، والأخطر أنه ينشئ جيلاً يتربى على الكراهية وعدم احترام القوانين، كما إنه يزرع الطائفية في نفوس الأطفال حينما يرون مدارسهم تحرق ويشعرون بالتهديد من قبل تلاميذ آخرين ينتمون (لطائفة معينة)، وبالتالي سيشعرون بالعداء والاستهداف من كل الطائفة، لن يفهم الصغار أن هؤلاء مغرر بهم وهم نتاج استغلال وتعصب طائفي لجماعات راديكالية، هي وبال على طائفتها وعلى الوطن بأكمله، قد نفهم ذلك نحن الكبار الذين عايشنا في طفولتنا زمن جميل بعيد عن الشحن الطائفي، لكن أطفال اليوم كيف ستكون نفسياتهم حين يكبرون وقد عاشوا ما عاشوه منذ فتنة 2011!!
الغريب أنه حينما ننادي بإبعاد الأطفال عن الفتنة يرد علينا مغيب متعصب: (أنتم لا تشعرون بمعاناة الفقراء هؤلاء دفعهم العوز والحاجة والظلم!!)، غريب حقيقة هذا الكلام فمتى كان الشعور بالحاجة دافعاً لحرق المدارس؟! وهل ترك الأطفال للمدارس والتوجه للتخريب وخرق القوانين وتعريض حياتهم وحياة الناس للخطر سيقودهم الى حياة أفضل وتحسين فرصهم مستقبلاً وتحسين وضعهم المعيشي؟! والأكيد أن الأطفال المخربين ليسوا بالضرورة من أسر فقيرة!!
ثم من قال إننا كنا من أسر ميسورة؟! لقد كنا من أسر مستواها الاقتصادي بسيط جداً؟! لكن أهلنا أحسنوا تربيتنا ومدونا بقيم عظيمة على رأسها احترام المدرس والمدرسة ورجل الأمن وحب كل ما يرمز للوطن والبعد عن الطائفية والتفرقة بين الناس، لذلك كان أبي (رحمه الله) يحلم أن أكون مدرساً حتى يفتخر بي ويناديه الناس (أبو الأستاذ)، مات الوالد قبل أن يراني مدرساً أو صحفياً، لكن ما غرسه فينا كان عظيماً مثله، ومازال حياً بداخلنا نسترشد به؛ فصرنا ما نحن عليه اليوم.
- شريط إخباري..
إلى الشيخ عيسى قاسم ومن وراءه الوفاق.. نعلم أنه باستطاعتكم وقف عمليات التخريب في الشوارع، وبالأخص في المدارس، فهل أنتم فاعلون؟ هذا سؤال وموقف أخلاقي.